اقتصاد / صحيفة الخليج

ثورة مالية تُعيد تشكيل العالم

كين هيدون*

يشهد الاقتصاد العالمي تحوّلاً عميقاً يتسم بالاعتماد المتسارع على العملات الرقمية للبنوك المركزية، وهي خطوة تاريخية كبرى تشبه، في أثرها واتساعها، التحوّل الذي أحدثه انتشار الأوراق النقدية في أوروبا خلال «الثورة المالية» في القرن الثامن عشر.
هذه الموجة الجديدة تحمل فرصاً هائلة، خصوصاً للدول النامية التي تسعى إلى تعزيز الشمول المالي. لكنها في الوقت نفسه تنطوي على مخاطر لا يمكن تجاهلها، إن لم تُدر بمنتهى الحذر، أبرزها تهديد الحقوق الديمقراطية وإضعاف القدرة الاقتصادية على مواجهة الصدمات.
الدافع الأكبر وراء سباق البنوك المركزية نحو العملات الرقمية هو الصعود المذهل للعملات المشفّرة الخاصة. فعندما يشتري المستثمرون العملات المشفّرة عبر السحوبات البنكية، أو عندما تشجّع بنوك مركزية لحكومات، مثل الولايات المتحدة، شراء السندات بتمويل من العملات المشفرة، أو حين تُستخدم في معاملات التجزئة، فهي بذلك تسعى للحفاظ على سيادتها النقدية.
ورغم تعدد الأسباب، يبقى الحدث الأهم في هذا المجال هو إطلاق مشروع العملة المستقرة «ليبرا» في عام 2019، الأمر الذي دفع العديد من الاقتصادات المتقدمة إلى التحرك سريعاً نحو تطوير عملاتها الرقمية الخاصة.
لا يمكن التقليل من أهمية المنافع المحتملة للعملات الرقمية السيادية، فبالنسبة لدول العالم النامي، تفتح الباب واسعاً أمام الشمول المالي عبر تمكين التحويلات المباشرة من شخص لآخر باستخدام المحافظ الإلكترونية من دون الحاجة إلى حساب مصرفي، إلى جانب تسريع المدفوعات عبر الحدود وتقليل تكلفتها. كما تُسهِم في تضييق الخناق على الأنشطة غير القانونية، فبعكس العملات المشفّرة اللامركزية، التي استُخدمت في قبل الجائحة للتحايل على قيود رأس المال، تتيح العملات الرقمية للبنوك المركزية سلسلة شفافة من البيانات تجعل استغلالها في الجرائم المالية أكثر صعوبة، وتمنح الحكومات أدوات أقوى لتعقّب المخالفات.
تبعث العملات المستقرة المربوطة بالدولار، مثل «تيثر»، القلق في نفوس السلطات النقدية خارج الولايات المتحدة. فأي تغيّر في قيمة الدولار قد يزعزع استقرار سياساتهم النقدية المحلية. ووصف البرلمان الأوروبي الاستراتيجية الأمريكية في الترويج لهذه العملات بأنها نوع من «معاملات تجارية مشفّرة»، خصوصاً بعد أن سجّلت في 2024 حجم معاملات يفوق ما تعالجه «» و«ماستركارد» معاً.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأطر القانونية تختلف من دولة إلى أخرى. فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يسمحان باستخدام العملات المشفّرة، وإن بصرامة رقابية أكبر. وفي بعض الدول النامية تستخدم العملات المشفّرة لتحويلات العاملين في الخارج، بينما تتم المدفوعات المحلية عبر العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية.
الصين تسير في اتجاه معاكس، إذ تفرض قيوداً شديدة على العملات المشفّرة، وتبني منظومة مالية موازية تتيح لشركات التكنولوجيا المالية إصدار عملات مستقرة من هونغ كونغ.
أطلقت، أو تدرس، 137 دولة، إصدار عملات رقمية للبنوك المركزية، وهو ما يمثل 98% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. في آسيا، يُسهّل الرنمينبي الرقمي الصيني تبادل الأموال دون الحاجة إلى الإنترنت أو الاتصالات. في عام 2020، أطلقت كمبوديا نظام مدفوعات التجزئة للعملات الرقمية للبنوك المركزية «باكونغ»، وهو أول نظام عالمي يستخدم تقنية البلوك تشين. ويوجد شكل من أشكال العملات الرقمية للبنوك المركزية في بروناي وإندونيسيا ولاوس وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام واليابان وكوريا الجنوبية.
لن يكون إدخال عملة رقمية حكومية مهمة سهلة، فالدول أمام معادلة معقّدة، كيف تجمع بين الشفافية والخصوصية، وبين السرعة في التنفيذ والحذر في حماية النظام المالي؟ وتتزامن هذه التحديات مع موجة «الركود الديمقراطي» التي يشهدها العالم، ما يجعل العملات الرقمية اختباراً حقيقياً لأربع قيم ديمقراطية أساسية وهي: الحريات المدنية، والمعاملة العادلة، والثقة في البنوك المركزية، إضافة إلى حماية الخصوصية.
يتطلب توسيع نطاق الشمول المالي سياسات تشجّع الابتكار في التكنولوجيا المالية وتدعم المنافسة. كما يمكن تعزيز الثقة في العملات الرقمية للبنوك المركزية من خلال فصل السلطة المُصدّرة عن السلطة السياسية، وضمان استقلالية القرار النقدي.
يجب على الدول الموازنة بين الحذر في طرح العملات الرقمية للبنوك المركزية والسرعة في تجنب المخاطر. ينبغي على الحكومات ضمان عدم تدفق الأموال من البنوك التجارية إلى العملات الرقمية، ما يُعقّد إدارة البنك المركزي للسيولة.
في آسيا، تواجه الاقتصادات الصغيرة خطر هيمنة العملات الرقمية للدول الكبرى، مثل الدولار الرقمي أو اليوان الرقمي، على حساب عملاتها الوطنية. فاشتداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين على زعامة البنية التحتية المالية للتجارة العالمية قد يقود إلى موجات اعتماد «الدولرة» أو «اليوان» الرقميين، وهو ما يضعف فعالية السياسة النقدية للدول الصغيرة ويجعل أسعار فائدتها أقل تأثيراً في اقتصاداتها.
* زميل زائر في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وعضو في منظمة منتدى شرق آسيا للتعاون الاقتصادي والتنمية

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا