عرب وعالم / السعودية / عكاظ

السردية الخفية

حين أطلقت رئاسة أمن الدولة تحذيرها بشأن وجود «سردية موجهة ضد »، لم يكن ذلك مجرد توصيف إعلامي عابر، بل كان كشفاً لآلية خفية وذكية تُستخدم لمحاولة التأثير على وعي المجتمع ، وتفكيك منظومته الفكرية من الداخل. فالسردية، بطبيعتها، ليست هجمة مباشرة، بل منظومة سردية طويلة الأمد تُعاد صياغتها عبر قوالب متجددة، ومضامين متراكمة، تتسلل ببطء إلى ذهنية المتلقي.

هذه السردية الموجهة لا تظهر في هيئة عدو صريح أو خصم معلن، بل تتسلل في شكل قصة مشوقة، أو محتوى ساخر، أو وثائقي مزيف، أو تقرير مدسوس يُبنى على أنصاف الحقائق. تكمن خطورتها في أنها لا تطلب من الجمهور أن يصدقها فوراً، بل تهدف إلى إثارة الشك، وبث الارتباك، وإعادة تشكيل الصورة الذهنية عن الوطن وتاريخه ورجاله وحاضره.

السردية الموجهة هي أشبه برواية كبرى، يتم بناؤها عبر سلسلة من الرسائل التي تتراكم وتتشكل، إلى أن تتحول إلى «قناعة» غير واعية في أذهان البعض. ليست هجوماً فجاً، بل استنزاف طويل للثقة. تبدأ بسؤال مشبوه، تمر بتقرير متحيز، تتردد على لسان مؤثر مغمور في بودكاست، ثم تنتهي بمشهد سينمائي أو إنتاج درامي يُقدَّم كأنه حيادي، بينما هو يُغذي سردية مغلوطة عن المجتمع أو القيم أو القيادة.

ما يجري ليس مجرد «تشويه صورة»، بل إعادة تشكيل وعي. فالسردية ليست في ظاهرها عدوانية، بل تستدرج العقول تدريجياً إلى أن تتبنى رؤية منحرفة دون مقاومة. هي لا تصرخ بالكراهية، بل تهمس بالتحريف. ولذلك، فهي أخطر من الحملات الإعلامية المباشرة، لأنها تلبس ثياب «التحليل» و«الطرح الموضوعي»، بينما هي محمولة على نية خبيثة وأجندة خارجية.

السرديات الموجهة غالباً ما تستهدف القيم التي تُشكّل أساس اللحمة الوطنية، كفكرة الانتماء، والاعتزاز بالهوية، والثقة في المؤسسات. هي لا تُنكر هذه القيم علناً، بل تُفرغها من مضمونها، وتُعيد تقديمها بعيون الخارج، أو بلغة تثير الريبة في جدواها. تارة تُقدّم المواطن كضحية، وتارة تُصوّر الدولة كغول، وتارة تُشيطن التحولات التنموية بوصفها «تغريباً»، أو تُبَسّطها بوصفها «مشروعاً تجميلياً».

وما يزيد هذه السرديات خطورة، أنها تستثمر في أدوات الثقافة الشعبية الحديثة. لم تعد تعتمد فقط على المقال أو التحليل السياسي، بل تغلغلت في الترفيه، والإعلانات، والميمات، والأفلام، والمواسم، والتغريدات، والحوارات العفوية التي تُبث على نطاق واسع وتُستهلك على أنها «محتوى عادي»، بينما هي رسائل موجهة تخاطب الوجدان وتُحرّك المشاعر.

ولأن السردية ليست حدثاً لحظياً بل «مسار زمني»، فإن مقاومتها لا تكون بشعار لحظي أو تغريدة تصحيحية، بل برواية مضادة، أصيلة، تنبع من الداخل، وتُروى بلسان الوطن لا بلسان الوكلاء. إن تحصين المجتمع ضد هذه السرديات يتطلب وعياً متقدماً بطرق تشكيل الرأي، ونقداً ذكياً للمحتوى، وتدريباً على كشف المكر في لغة الصورة والكلمة.

رئاسة أمن الدولة حين أشارت إلى هذا المفهوم، كانت تدق ناقوس الخطر، وتوجّه البوصلة إلى معركة ناعمة تُخاض في ميدان الوعي، لا في ميدان السياسة أو الحرب. ولهذا فإن الانتصار فيها لا يكون بالقمع ولا بالصوت العالي، بل ببناء وعي جمعي قادر على تمييز النية من النغمة، والحقيقة من التحوير.

إن السردية الموجهة ضد السعودية ليست اختباراً للدولة فحسب، بل امتحانٌ لذكاء المجتمع، ونضج أفراده، وفطنة نخبته، وصدق مؤسساته الإعلامية والثقافية. وهي دعوة مفتوحة لكل مواطن أن يُعيد التفكير في المحتوى الذي يتلقاه، لا بعين التسلية فقط، بل بعين الوعي والتفكير الناقد. فالوطن لا يُحمى بالسلاح وحده، بل بالحكاية التي نرويها نحن عن أنفسنا، قبل أن يرويها غيرنا.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا