12 نوفمبر 2025, 7:13 صباحاً
في عالم يمضي بِخُطًى متسارعة نحو التحوُّل الرقْمي والذكاء الاصطناعي، لم تَعُد المؤسسات -حكومية كانت أو خاصة- تملك رفاهية الاعتماد الحصري على البرامج التدريبية التقليدية لتطوير كوادرها؛ فالمنافسة المحتدمة، وتغير طبيعة الوظائف، كلها عواملُ فَرضت واقعًا جديدًا لا يكفي فيه التلقين ولا تُحتمل فيه فَجَوات التأهيل. من هنا، عاد إلى الواجهة أحد أقدم وأبسط مفاهيم التعلُّم المهني: «التدريب على رأس العمل» (On the Job Training)، الذي اكتَسب في السنوات الأخيرة حضورًا متجددًا ضمن استراتيچيات التنمية البشرية في مختلِف أنحاء العالم، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
ولطالما ارتبط هذا النوع من التدريب بالصورة البدائية للممارسة اليومية؛ حيث يتعلم الفرد المهارة وهو يراقب خبيرًا يؤديها، ثم يحاول تقليده. لكن هذا النموذج البسيط، الذي كان في الماضي مجرَّدَ ممارسة تلقائية داخل الحِرَف والمهن التقليدية، أعيدت صياغته اليوم كمنهج مؤسسي قائم بذاته، مدعومًا بخطط واضحة، وأهداف قابلة للقياس، وأساليب تقييم منتظمة. والفارق الجوهري هو أن المفهوم لم يتغير، لكن طريقته في التطبيق أصبحت أكثر علميةً وفاعلية.
في العقود الماضية كانت المؤسسات تميل إلى الفصل بين التدريب والعمل. يُرسَل الموظف إلى دورة، ثم يعود ليَنقُلَ ما تعلمه، وغالبًا ما يتلاشى الأثر بين جدران القاعات. لكن النموذج الجديد، الذي يتبناه عدد متزايد من الجهات الحكومية والخاصة، يعكس قناعة مختلفة: أن أفضل مكان لتعلم المهارة، هو الموقع الذي تُؤدَّى فيه تلك المهارة.
يُعرَّف التدريب على رأس العمل بأنه «عملية تدريبية تتم داخل موقع العمل الفعلي، حيث يتعلَّم الموظف المهاراتِ والمعارفَ اللازمة من خلال مشاركته المباشرة في تنفيذ المهام اليومية، غالبًا تحت إشراف زميلٍ أكثرَ خبرةً أو قائدٍ مباشر». وتتمثل القوة الأساسية لهذا النموذج بكونه يدمج بين النظرية والتطبيق في آنٍ واحد، فلا انفصال بين ما يُتعلم وما يُمارَس، ولا فجوة زمنية بين التلقين والتطبيق. الموظف يتعلم بينما يعمل، ويُصحِّح بينما يُجرِّب، ويكتسب المهارة في البيئة نفسها التي سيستخدمها فيها لاحقًا.
ويأخذ التدريب على رأس العمل شكلين رئيسَيْن؛ الأول هو «التدريب غير الرسمي»، الذي يَحدث بصورة تلقائية وعفوية أثناء التفاعل اليومي في بيئة العمل، كأن يوجه الموظف زميله الجديد أو يشرح له طريقة أداء مهمة معينة. أما الشكل الآخر، فهو «التدريب المنظم» (S-OJT)، وهو أكثر تطورًا، ويتم وَفْقَ خطط تدريبية مصمَّمة مسبقًا، تشمل أهدافًا واضحة، وجداولَ زمنية، وأدواتِ تقييم دقيقة. في هذا النوع، لا يُترك الأمر للاجتهادات الفردية، بل يُدار كبرنامج تدريبي متكامل داخل المؤسسة.
ويمتد نطاق التدريب على رأس العمل ليشمل طَيْفًا واسعًا من التطبيقات التي يمكن توظيفها بحسَب طبيعة المهمة والمستوى الوظيفي. ومن أمثلة ذلك: التدريبُ التعاوني؛ الذي يُمكِّن الطلاب من اكتساب خبرة واقعية قبل التخرج، والإرشادُ المهني؛ الذي يربُط الموظفين الجدد بذوي الخبرة في علاقة توجيه طويلة الأمد، وتدويرُ الوظائف؛ الذي يتيح للموظف التنقل بين الأقسام لفهم الصورة الشاملة للمنظمة. كما يندرج تحت هذا الإطار أساليبُ مِثْلُ لَعِب الأدوار، ومحاكاة السيناريوهات، والتدريب التبادلي، والمرافقة الوظيفية، والتدريب التذكيري، وحتى التدريب الذاتي عبر موادَّ مرجعيةٍ أو إلكترونية تُقدَّم داخل بيئة العمل.
هذه المنهجية لا تحقق فائدتها فقط في بناء المهارات الفنية، بل تمتد إلى صقل المهارات السلوكية والاجتماعية، إذ تتيح للموظف أن يتعلم من زملائه، ويتفاعل مع بيئته، ويكتسب عادات العمل الفعلية، ما يسرِّعُ من اندماجه ويقلل من حاجته إلى فتَرات تهيئة مطوَّلة.
من مزايا التدريب على رأس العمل أنه يحقق التعلم في اللحظة المناسبة، ويرتبط بالمهمة الواقعية، مما يرفع من معدلات الاحتفاظ بالمعرفة، ويَزيد من قابلية التطبيق. كما أنه يُعد أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية، إذ يقلل تكاليف السفر وحجوزات القاعات والمدربين الخارجيين. هذا إلى جانب كونه يساعد الموظف الجديد على الاندماج بشكل أسرع، ويتيح للقادة مراقبةَ الأداء عن قرب، واكتشافَ المواهب الخفية ضمن السياق الفعلي.
لكن، وكما هي الحال مع أي نموذج تدريبي، فإن التدريب على رأس العمل لا يخلو من بعض التحديات. وفي مقدمة هذه التحديات تفاوت جودة التطبيق بين الأقسام، خصوصًا حين تُترك منظومة التدريب من دون إشراف واضح أو دون توافر مهارات تدريبية لدى القادة. كما أن غياب التوثيق أو التقييم قد يجعل من التجربة مجرد نشاط غيرِ محسوب الأثر. وهناك خطر حقيقي في انتقال الممارسات الخاطئة من الموظف المدرِّب إلى الموظف المتدرب إذا لم تكن هناك رقابة فعَّالة أو ثقافة مؤسسية صحية.
وتماشيًا مع الاستراتيچية التحولية لمعهد الإدارة العامة، متمثلة برؤيتِها بأن يكون المعهد «الخيار الأول للتطوير القيادي والإداري للقطاع العام»، ورسالتِها التي تهدف إلى «الارتقاء بالقدرات القيادية والإدارية للقطاع العام من خلال تقديم خدمات تطويرية بمعايير عالمية عبر شركاء محليين ودوليين»، استُحدِثت إدارةٌ للتدريب على رأس العمل كأحد الممكنات الأساسية لدعم تحقيق هذه الاستراتيچية.
تُعنى هذه الإدارة بمتابعة تصميم برامج التدريب على رأس العمل، والإشراف على تنفيذها بكفاءة وجودة عاليتين، بالإضافة إلى تحديد وتحليل احتياجات الجهات المستفيدة من هذا النوع من التدريب، بما يضمن توافق البرامج التدريبية مع متطلبات العمل الفعلية، ويساهم في تطوير رأس المال البشري وتمكين التعلم الذاتي والتطبيقي في بيئة العمل.
وتأتي هذه الخطوة في إطار تعزيز إحدى الركائز الأساسية للاستراتيچية، والمتمثلة بـ«تطوير رأس المال البشري»، بما يواكب أفضل الممارسات العالمية، ويحقق أحد أهداف الاستراتيچية في «رفع جودة عمليات تطوير موظفي القطاع العام».
لقد أصبح من الجَلِيِّ أن يكون التدريب على رأس العمل ركيزة أساسية في كل خطة تدريب وتطوير؛ لأنه لا يزوِّد الموظف بالمعرفة فحسب، بل يمنحه الثقة، ويصنع منه عنصرًا فاعلًا منذ لحظاته الأولى في المؤسسة. كما يُعد هذا النوع من التدريب أداةً لبناء ثقافة مهنية نابضة، يتشارك المسؤوليةَ فيها القادةُ والموظفون، ويتحول فيها كلُّ موقف عملي إلى لحظة تعلم، وكلُّ تحدٍّ إلى فرصة.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة سبق الإلكترونية ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة سبق الإلكترونية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
