في صباح شتوي هادئ، كان مدير استثمار شاب يجلس أمام شاشاته الثلاث، يراقب تحركات السوق في صمت حيث لم يكن هناك خبر اقتصادي جديد، ولا تقرير أرباح ضعيف، ولا أي توتر جيوسياسي يمكن أن يفسر أي تقلب. ومع ذلك، بدأت الأسهم تنخفض بشكل مفاجئ، وكأن موجة من الذعر اجتاحت السوق دفعة واحدة. فبمجرد أن ضغط أحد المديرين على زر البيع، ارتفعت أوامر البيع في منصة التداول، وتبعه آخر على الفور، وبعد دقائق قليلة امتدت الموجة لتشمل عشرات الصناديق حول العالم، محولة السوق إلى دوامة من الانخفاضات المتسارعة. وعلى مقربة من هذا المدير، جلس مستثمر فردي صغير أمام حاسوبه المحمول في شقته، يتناول قهوته ويحدق في الشاشة، ولم يندفع للبيع، بل تابع الهبوط بهدوء، ملاحظًا سرعة انتشار الذعر بين المستثمرين الآخرين، وحركات بيع متسلسلة تعكس خوفًا جماعيًا. في المقابل كان هو مستعدًا لاقتناص الفرص عندما تنهار الأسعار، معتمدًا على صبره وتحليله الدقيق بدلاً من الانجرار وراء الزحام. عندما انتهى اليوم، خسر معظم من تحركوا مبكرًا خوفًا، بينما ربح من تحرك متأخرًا بثقة، لم تكن القصة عن ذكاء خارق، بل عن فارق بسيط بين من اتبع القطيع، ومن وقف خارجه لحظة واحدة فقط. هذه القصة الصغيرة تكشف جوهر سؤال لماذا يبيع المستثمرون معًا رغم اختلاف أهدافهم وقدراتهم؟ ولماذا يتمكن بعضهم من تحقيق مكاسب فردية بينما يخسر أغلب السوق؟ هنا يظهر السؤال الحقيقي كيف يتحول خوف فرد واحد إلى موجة عالمية؟ ولماذا يبيع المستثمرون معًا كأنهم كتلة واحدة، بينما يتمكن البعض من تحقيق مكاسب فردية وسط الفوضى؟ آليات سلوك القطيع يظهر سلوك القطيع في الأسواق المالية عندما يتخلى المستثمر عن قناعاته الفردية ليتحرك مع الاتجاه العام، حتى لو كانت معلوماته أو تحليلاته تشير إلى مسار مختلف. ما يبدو وكأنه قرار عقلاني غالبًا ما يكون انعكاسًا لضغط نفسي واجتماعي يجعل المستثمر يشعر أن البقاء مع الجماعة أقل تكلفة من الخطأ منفردًا. وقد كشفت أبحاث المالية السلوكية أن هذا السلوك لا ينشأ من سبب واحد، بل من مزيج معقد من آليات تتفاعل معًا في لحظات التوتر. وتأتي في مقدمتها تدفق المعلومات فعندما يتخذ عدد من المستثمرين قرارات متشابهة بيعًا أو شراءً، يفترض الآخرون أن لديهم معلومات خاصة لا يمتلكونها. ومع تكرار هذا النمط، يتحول سلوك عدد محدود إلى موجة واسعة، بغض النظر عن جودة المعلومات الأصلية، وهنا تفقد السوق تنوع الرأي الذي يمنع الانهيارات السريعة. أما العامل الثاني فهو القلق المتعلق بالسمعة لدى مديري الأصول حيث إن مدير الأصول لا يحاسب فقط على أدائه، بل على أدائه مقارنة بباقي السوق. العوامل المؤثرة في سلوك القطيع العامل الوصف تأثيره على السوق تدفق المعلومات افتراض المستثمرين أن الآخرين يمتلكون معلومات أفضل يؤدي إلى تبني قرارات جماعية متشابهة بسرعة القلق المتعلق بالسمعة مديرو الأصول يتحركون لتجنب الأداء الأسوأ من السوق يعزز الانسياق مع القطيع حتى لو كان القرار غير منطقي قيود السيولة بعض المستثمرين مضطرون للبيع لتغطية طلبات السحب يسرع الانخفاض ويزيد شدته الاستثمار السلبي الصناديق المؤشرة تتبع حركة السوق ميكانيكيًا يحول أي موجة صغيرة إلى تيار قوي يشمل السوق بالكامل لذلك يصبح الخروج عن الإجماع مخاطرة مهنية، حتى لو كان القرار منطقيًا، ففي لحظات الهبوط، يفضل الكثيرون مبدأ الخطأ مع الجماعة بدل الصواب منفردًا، ما يعزز حركة جماعية تدفع الأسعار إلى مستويات أبعد من قيمها الحقيقية. أما العامل الثالث فيتعلق بقيود السيولة وإدارة المخاطر إذ إن بعض المستثمرين -خصوصًا الصناديق الممولة بالديون أو الملتزمة بقواعد صارمة للمخاطر- يجبرون على البيع عند انخفاض الأسعار للحفاظ على نسب السيولة أو تلبية طلبات السحب. هذه القرارات القسرية، حين تتزامن مع موجة خوف، تزيد الشدة، فتظهر السوق وكأنها تتحرك بعقل واحد. كما يأتي عامل تزايد الاستثمار السلبي كمؤثر آخر، إذ إن الانتشار الواسع للصناديق المتتبعة للمؤشرات خلق حركة ميكانيكية في الأسواق تتضمن دخولًا جماعيًا عند الارتفاع، وخروجًا جماعيًا عند الانخفاض. ومع صعود دور كبار مديري الأصول، أصبحت قرارات عدد محدود من المؤسسات كفيلة بإطلاق موجة تداول ضاغطة تكتسح السوق. هذه الآليات، حين تتفاعل معًا في لحظة واحدة، تحول السوق من بيئة قرارات فردية إلى كتلة واحدة لتصبح النتيجة عبارة عن موجات بيع متتابعة تخلق فرصًا نادرة للبعض، وتكلفة مرتفعة على من يتبع الإشارة الأولى دون تفكير. أمثلة واقعية لبيع جماعي يهز الأسواق ليس من السهل دائمًا ربط كل موجة بيع بعامل وحيد، لكن التاريخ مليء بحالات توضح كيف يمكن لسلوك القطيع أن يزيد من حدة الأزمات أو يخلق انهيارات مفاجئة. ففي يوم 19 أكتوبر 1987، المعروف بـ بلاك مانداي، انخفض مؤشر داو جونز نحو 22.6% في جلسة واحدة، وهو أكبر هبوط يومي في تاريخ السوق من حيث النسبة المئوية. هذا الانهيار لم يكن نتيجة خبر اقتصادي كبير، بل نتيجة سلسلة من القرارات الصغيرة تسارعت بفعل التداول الآلي والإقدام الجماعي على البيع. كما أن حادثة فلاش كراش التي وقعت في السادس من مايو 2010 بالسوق الأمريكي، أظهرت الدراسات أن سلوك القطيع لعب دورًا واضحًا أثناء الحدث وبعده، مسهمًا في تقلبات حادة على الرغم من عدم وجود خبر اقتصادي محدد يبرر هذا الاضطراب. وفي دراسة شملت عدة أسواق رأس مالية أوروبية، أظهرت نتائج تحليل أن ما يعرف بحالات القطيع الشديدة أثرت فعليًا على العوائد المستقبلية للأسواق. وخلال الفترة من ديسمبر 1992 إلى ديسمبر 2020، أظهرت الدراسات أن أسواق الأسهم تميل لتسجيل أداء أقل بعد فترات تتسم بسلوك القطيع المكثف. وبعد هذه الفترات، كان متوسط العائد الشهري للأسهم منخفضًا على مدار ستة أشهر، مقارنة بالفترات التي ساد فيها سلوك معاكس، أي عندما تحرك المستثمرون بشكل مستقل أو ضد الاتجاه العام. هذا يشير إلى أن موجات القطيع لا تقتصر على تحريك الأسعار مؤقتًا، بل تترك أثرًا سلبيًا على الأداء المستقبلي للسوق، بحيث تزيد احتمالية انخفاض العوائد وتفاقم التراجع. وفي أحداث مرت بها أسواق شرق أوروبا خلال جائحة كوفيد 19، كشف تحليل لبيانات عدد من البورصات مثل روسيا، التشيك، سلوفينيا، المجر، وكرواتيا بين عامي 2010 و2021 أن سلوك القطيع زاد بشكل ملحوظ بعد تفشي الجائحة. بمعنى أن الخوف وعدم اليقين المرتبطين بالجائحة دفعا كثيرًا من المستثمرين لمحاكاة حركة الآخرين، ما عزز تزامن البيع عبر أسواق مختلفة. هذه الأمثلة تبين أن ظاهرة القطيع ليست محصورة في سوق بعينه أو منطقة محددة، بل هي سمة يمكن أن تظهر في أسواق متنوعة خصوصًا في الأزمات أو فترات التوتر الاقتصادي أو تأثر بعوامل خارجية كجائحة. تأثير سلوك القطيع على الأسواق والسياسات المالية عندما يتحول السوق إلى جسم جماعي، لا تعبر الأسعار عن تقييمات حقيقية أو تحليلات، بل عن موجة انفعال جماعي. في هذه اللحظات، تفقد الأسواق قدرتها على تسعير المخاطر بشكل صحيح، وتبدأ المخاطر الهيكلية للسيولة، الرافعة، والتركيز في المصارف غير التقليدية بالظهور. كما يجعل الزخم الميكانيكي الذي تحدثه تدفقات رؤوس الأموال عبر الصناديق، الأسواق عرضة لتقلبات قوية عند أي ضغط، دون رابط بين الحركة وقيمة الأصول. كما أن التركيز العالي في استخدام استراتيجيات تحوط أو أدوات مشابهة يجعل محافظ كثيرة تتفاعل بنفس الشكل، وهو ما يعني أن أي هبوط بسيط في أصل أو قطاع قد يشعل موجة بيع عام عبر السوق. لهذا، برزت أهمية تدخل تنظيمي من أجل شفافية أكبر لمراكز الرافعة المالية، والرقابة على الصناديق غير المصرفية، ووضع قواعد اختبار ضغط تحاكي سيناريوهات خروج جماعي، حتى لا تنهار الأسواق بمجرد شرارة بسيطة. ويحول سلوك القطيع الأسواق من فضاءات تحليل عقلي إلى مسارح نفسية تتفاعل فيها الأسعار مع موجات جماعية من القلق والخوف، وليس بالضرورة مع الحقائق الاقتصادية أو التحليل الموضوعي. نتيجة هذا التحول ليست فقط خسارة مؤقتة أو تقلب في الأسعار، بل قد يضعف ثقة المستثمرين، ويحدث اضطرابات هيكلية، ويغذي سوء تسعير طويل الأجل. وفي المقابل، يخلق هذا السلوك انتصارات نادرة لمن يملك سيولة أو هدوء قرار فردي، بعيدًا عن اندفاع الجماعة، فالسوق في النهاية لا يكافئ السرعة أو الانسياق، بل يكافئ من يفهم توقيت الخروج والدخول، ويتصرف بعقل هادئ داخل دوامة القطيع. المصادر: أرقام- صندوق النقد الدولي- مورنينغ ستار- ساينس دايركت- المجلة الأوروبية لإدارة الأعمال والمالية- بنك التسويات الدولية- بلومبرغ- وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية- مجلة باسيفيك باسين للتمويل