مريم سلطان المزروعي باحثة في التراث
المالد، هو ذلك الفن الروحي الذي يتسلّل في الذاكرة كخيط نور، ويستقر في الوجدان كتاج من الهيبة والجلال، حاملاً بين دفتيه عمق الموروث الإسلامي، وخصوصية الهوية الإماراتية. ليس احتفالاً عابراً، بل طقس وجداني يجمع بين جمال السيرة وصدق العاطفة، وبين تراتيل المحبة وعبق التاريخ. إنه فن ينبت في القلب شعوراً طاهراً، ويتجلّى في المجالس نوراً يعبّر عن محبة ضاربة في الجذور. نشأ المالد، أو المولد، من مشاهد الاستقبال الحافلة يوم دخل الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، مدينة يثرب مهاجراً من مكة، فاستقبله أهلها بالترحيب والإنشاد، فتولّدت من تلك اللحظة النورانية بذرة هذا الفن الذي تناقلته الأمة، جيلاً بعد جيل.
وفي الإمارات، لم يأتِ المالد منفصلاً عن روح المجتمع، بل كان جزءاً أصيلاً من هويته الثقافية، تُقام طقوسه في المناسبات الدينية والاجتماعية، تُحييها الفرق الشعبية التي تناقلت هذا الفن، بوعي وتقدير. ويؤدّى المالد بطريقتين رئيستين: الأولى قراءة النصوص النثرية كمولد البرزنجي، والثانية الإنشاد الجماعي للقصائد التي تتنوّع بين نفائس ابن الفارض، والبرعي، والحداد. ويجلس المنشدون في صفين متقابلين، أحدهما صفّ النظيم الذي يقود الأداء ويمسك بإيقاع السماعات، والآخر صفّ الرديدة الذين يتولون تكرار الدور، فيتشكّل نسيج صوتي متناسق تتعانق فيه المقامات الإيقاعية، مع حرارة الوجد. وتزدان مجالس المالد بإنشاد فردي، يليه تجاوب الحضور بالصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أن تبلغ اللحظة ذروتها ب«التخميرة»، ذلك الوجد الفردي الذي يندمج فيه الذكر مع تسارع إيقاع الدفوف، وارتفاع نداء التهليل. وهكذا يتنقّل المالد بين القراءة، والإنشاد، والذكر، كرحلة روحية تصعد بالقلوب إلى آفاق الصفاء. ويُقام المالد سنوياً، في الثاني عشر من ربيع الأول، احتفاء بالمولد النبوي الشريف، وتتابعه بعض المجالس، أسبوعياً أو شهرياً، فضلاً عن حضوره في الأعراس، والانتقال إلى البيوت الجديدة، والختان، وسائر المناسبات. واتّسعت رقعة المالد في الإمارات، فكان له حضور بارز في أبوظبي لدى مجالس آل نهيان، وآل حامد، وآل عتيبة، وأحمد بن خليفة السويدي. وفي دبي، تجذّر هذا الفن في مجالس آل مكتوم، وآل مجرن، وفي بيوت التجار كالفطيم وأهل البستكية، كما ازدهر في رأس الخيمة، ودبا، وخورفكان، وكلباء، والمعيريض، وأم القيوين، حيث حملت القبائل والأسر المالد، جيلاً بعد جيل.
نقلة
ومن العلامات الفارقة في مسيرة المالد الإماراتي تأسيس فرقة المريد بقيادة الشيخ عبدالرحيم المريد، الذي أحدث نقلة نوعية، حين بادر مع رفاقه إلى إنشاء جمعية دبي للفنون الشعبية، بدعم من المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، فكانت تلك أول منصة رسمية تُعنى بهذا الفن، تنظيماً وتدريباً، وحفظاً لحقوق المؤدّين، وخرج من تحت رايتها منشّدون بارزون، مثل الشيخ أحمد بن عبدالرحمن بن حافظ، وجمعة جعفر، وأبناء الشيخ إبراهيم بن حميدان. وأسهم الشيخ المريد في تدريب فرقة وزارة الثقافة للفنون الشعبية، التي أصبحت الممثّل الرسمي للدولة في المحافل، المحلية والدولية. ولم يغفل الباحثون هذا الفن، إذ جمع ثاني المهيري أقدم مصنفات المولد، ككتاب «تنقل الأنوار» لابن عائذ الأندلسي، وسجّل إسهامات علماء الإمارات وشعرائها، منهم عبدالله الخزرجي، والقاضي علي بن سالم بوملحا المرر. كما وثّق المهيري احتفالات الفرجان في الرميثات، وأهل بو مهير، وذكر مبادرة الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، الذي كان يجمع الأهالي في قصر الحصن ليحتفلوا بالمولد مجتمعين في ليلة يفيض نورها.
مجالس
برزت مجالس عدّة في أبوظبي بإحياء هذا الفن، إلى جانب أسماء كبيرة، مثل عمير بن يوسف، الشيخ جابر الهاملي، الشاعر عبدالله بن سليم، محمد بن يعروف، ودرويش بن كرم، وغيرهم. وفي دبي، اشتهر مجلس الشيخ سعيد بن مكتوم، ومجلس الشيخ مجرن بن سلطان، ومجالس الفطيم، وآل بيات، إضافة إلى فرق الفنون الشعبية التي أدّت المالد في الأعراس والمناسبات. وكان للنساء دور راسخ في إحياء هذا الفن، فقد عُرف في مجالس الشيخات في أبوظبي ودبي، واشتهرت أسماء مثل زليخة بنت السيد محمد أبوذينة، والشيخة مدية بنت الشيخ سلطان بن مقرن، والملاية فاطمة العرشي. كما خلّدت الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي «فتاة العرب»، حضورها بقصيدة على وزن أناشيد المولد تُتلى في المجالس إلى اليوم.
جائزة
ارتبط المولد النبوي في وجدان الإماراتيين بذكريات الآباء المؤسسين، وفي مقدمتهم المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، واحتفى به بمظاهر تُخلّد السيرة، وتُعلي من شأن المناسبة. وكان من أبرز مشاريع الإمارات في هذا المجال جائزة البردة التي أصبحت منارة عالمية تحتفي بالفنون الإسلامية والاحتفال بالسيرة النبوية العطرة. وهكذا يبقى المالد في الإمارات صوتاً متفرّداً، يفيض نوراً لا ينطفئ، ويُجسّد علاقة راسخة بين الإنسان وتراثه، وبين الوطن وروحه، فيستمر إرثاً نابضاً ينثر الجمال ويُخلّد المحبة عبر الأجيال.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
