17 ديسمبر 2025, 11:14 صباحاً
مع اقتراب نهاية العام، يعلو في الفضاء العام ضجيج من الأسئلة والتقييمات، ضجيج لا يُطرح غالباً بدافع التأمل، بل كأنه اختبار غير معلن لمدى "نجاح" السنة التي توشك على الرحيل. ماذا أنجزنا؟ ماذا تأخر؟ وما الذي كان ينبغي أن يكون أفضل؟ ومع هذا الإيقاع المتسارع، تتحول الأسابيع الأخيرة من ديسمبر من مساحة طبيعية للمراجعة الهادئة إلى موسم مثقل بالمقارنة والاستنزاف. وهذا الشعور العام لا يأتي من فراغ.
فمن حيث المبدأ، لا خلاف على أن التخطيط ووضع الأهداف يمثلان سلوكاً صحياً ومهماً، إذ يمنحان الإنسان إحساسًا بالاتجاه والمعنى. غير أن علم النفس يلفت الانتباه إلى أن أثر التخطيط لا يتحدد بوجود الهدف بحد ذاته، بل بالدافع الذي يقف خلفه. وتوضح نظرية تحديد الذات (Self-Determination Theory) في علم النفس أن الأهداف التي تنبع من دافع داخلي، ومتّصلة بالمعنى الشخصي والقيم الذاتية، تعزز الدافعية والصحة النفسية على المدى البعيد. في المقابل، فإن الأهداف التي تتشكل تحت ضغط خارجي، أو بدافع المقارنة والاستجابة لتوقعات الآخرين، قد تتحول إلى مصدر توتر واستنزاف، حتى وإن بدت في ظاهرها منطقية أو إيجابية.
ويصبح هذا الفرق أكثر وضوحاً حين ننتقل من الإطار النظري إلى تفاصيل الحياة اليومية. فنلاحظ كيف تختلف علاقتنا بفكرة التخطيط نفسها مع نهاية العام. فمع هذه الفترة، يسارع بعض الناس إلى شراء الأجندات الملونة والمنظمة، لا بدافع التخطيط الحقيقي، بل من باب التقليد أو مجاراة المشهد العام. في المقابل، يتجه آخرون إلى الأجندة ذاتها برغبة صادقة في التنظيم وبحاجة فعلية لإعادة ترتيب أولوياتهم. وبين هذين النمطين، غالباً ما يكتفي الإنسان الذي تتضح أهدافه بدفتر بسيط للترتيب والتخطيط، لأن الوضوح الداخلي يقلل الحاجة إلى أدوات خارجية معقّدة؛ فالأداة هنا تخدم الهدف، ولا تحاول أن تصنعه. بينما يختار بعضهم تأجيل كل شيء، ويعلّق بداياته على نهاية سنة أو بداية أخرى، وكأن التغيير لا يملك حق الحدوث خارج هذا التوقيت المحدد.
ولا يقتصر هذا النمط على التخطيط فحسب، بل يمتد إلى طريقة عرض الإنجازات نفسها. فقد يذكر أحدهم، بكل حسن نية، أنه قرأ عشرة كتب خلال العام، فيتحول هذا الرقم لدى آخرين إلى مرآة قاسية، يجلدون أنفسهم لأنهم لم يقرأوا كتاباً واحداً، لا تكاسلاً، بل بسبب ظروف نفسية أو خاصة استهلكت طاقتهم. هنا لا تكون المشكلة في القراءة، ولا في مشاركة الإنجاز، بل في تحويل التجربة الإنسانية إلى مقارنة رقمية لا تراعي السياق، ولا تعترف بتفاوت الظروف والقدرات.
عند هذه النقطة، لا تعود المسألة مسألة تخطيط بقدر ما تصبح مسألة علاقة. علاقة الإنسان بنفسه، وبإيقاعه، وبالطريقة التي يقيس بها قيمته. فأسلوبنا في صياغة أهدافنا لا ينفصل عن هذه العلاقة. حين يكون تنظيم المسار قائماً على الضغط والمقارنة، تفقد الأهداف مرونتها وتضعف قابليتها للاستمرار. أما حين ينبع من وعي بالاحتياجات الفعلية، ومن تقدير صادق لما مررنا به خلال العام، فإنه يتحول إلى أداة دعم، لا إلى عبء إضافي نحمّله لأنفسنا في لحظة نحن أحوج ما نكون فيها للهدوء.
ومن هنا، يصبح من المهم التفريق بين التخطيط بوصفه ممارسة فردية نفسية، وبين التخطيط بوصفه أداة عمل مؤسسية. ففي الجهات بمختلف قطاعاتها، تُعد مراجعة النتائج وقراءة الأرقام وتحليل الأداء السنوي ممارسات أساسية لا غنى عنها، تُبنى عليها القرارات، وتُحدَّد من خلالها الاتجاهات المستقبلية، ويُقاس النجاح بمعايير واضحة ومعلنة. أما هذا الطرح على المستوى الفردي، فلا يدعو إلى إيقاف التخطيط، ولا إلى التعامل مع الحياة بعشوائية أو غياب اتجاه، بل يدعو إلى تخطيط أكثر وعياً ومرونة، يراعي القدرة والطاقة، ولا يُبنى على القسوة أو المقارنة، ولا يختزل قيمة التجربة الإنسانية في توقيت زمني محدد أو قائمة إنجازات صارمة. ويظهر الإشكال الحقيقي حين ينقل الفرد منطق التقييم المؤسسي إلى حياته الشخصية، فيقيس نفسه بالأرقام، ويتعامل مع مساره الإنساني بعقلية محاسبية لا تترك مساحة للفهم أو التدرّج.
ومع هذا الفهم، لسنا مطالبين أن نختتم العام بإجابات كاملة، ولا أن نستقبل العام الجديد بخطط مثالية. أحيانًا تكون المراجعة الأكثر نضجًا هي التي تسمح لنا بتخفيف حدة التوقعات، وأن ننظر إلى التجربة كما هي، بما حملته من تعلّم وتحوّل، لا بما نقص منها فقط.
الرسالة هنا ليست دعوة لترك التخطيط، بل لإعادة النظر في الطريقة التي نمارسه بها. خطط إن أردت، وحدد أهدافك إن أحببت، لكن لا تجعل نهاية العام موسماً لمزيد من القسوة على نفسك. دع التخطيط يكون نابعاً من الداخل، ومتسقاً مع طاقتك ومسارك، فالنمو النفسي الحقيقي لا يبدأ من الضغط… بل من الوعي.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة سبق الإلكترونية ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة سبق الإلكترونية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
