اقتصاد / صحيفة الخليج

كيف تغيّر فيزياء الكم قواعد الإدارة الحديثة؟

راسل قاسم

الفيزياء الكمومية أو ما يُعرف بفيزياء الكم هي الفرع الذي يختص بدراسة سلوك المادة والطاقة على المستوى الذري ودون الذري، حيث تسود ظواهر واحتمالات تختلف جذرياً عن قوانين الفيزياء الكلاسيكية. نشأت ميكانيكا الكم في مطلع القرن العشرين عبر سلسلة من الاكتشافات العلمية الرائدة غيّرت جذرياً فهمنا لسلوك الجسيمات في العالم دون الذري.
في جانب الإدارة، كثيراً ما تعجز النماذج الإدارية التقليدية ذات الفكر الخطي الجامد عن المواكبة الفعّالة. هنا يأتي دور الإدارة الكمومية كنهج فكري جديد مستلهم من مبادئ فيزياء الكم، بهدف تحدي الافتراضات الإدارية التقليدية الحتمية. وكما كسرت الفيزياء الكمومية الصورة النيوتنية الصارمة وقدمت فهماً يقوم على الاحتمالات والغموض، تدعو الإدارة الكمومية القادة إلى تقبّل عدم اليقين والتعقيد بدلاً من مقاومته.
لنسِر معاً عزيزي القارئ ونرى كيف يكون ذلك:
في ميكانيكا الكم، يصف مبدأ عدم اليقين الذي صاغه هايزنبرغ حدوداً أساسية للدقة في القياس؛ فهو ينص على أنه يستحيل تحديد بعض الخصائص المترابطة معاً مثل موضع الجسيم وسرعته بدقة في آن واحد. أي أن عملية القياس نفسها تؤثر في النظام وتُدخل قدراً من اللايقين، مما يجعل الظواهر دون الذرية احتمالية بطبيعتها وليست حتمية. وعلى المنوال نفسه في عالم الإدارة والأعمال، نادراً ما تتوافر للمديرين معلومات كاملة أو يقين تام حول جميع المعطيات قبل اتخاذ القرارات؛ فبيئة الأعمال حافلة بالمتغيرات الغامضة والمفاجآت. يشير التفكير الكمومي إلى ضرورة تقبّل القادة لهذا الغموض الكامن وعدم إمكانية التنبؤ اليقيني، والتحول من محاولة فرض السيطرة المطلقة، إلى بناء القدرة على التكيّف السريع واتخاذ القرارات بناءً على الاحتمالات وإدارة المخاطر.
} التراكب الكمي وتعددية الاحتمالات في صنع القرار:
في الفيزياء، يعني مبدأ التراكب الكمي قابلية الجسيم لامتلاك حالات متعددة في الوقت نفسه طالما لم يتم رصده أو قياسه. المثال الشهير على ذلك هو قطة شرودنغر الافتراضية، حيث توجد القطة في حالة حياة وحالة موت بشكل متزامن داخل صندوق مغلق إلى أن نفتح الصندوق ونلاحظها؛ عندها فقط تنهار الحالة الكمومية إلى إحدى الحالتين اليقينيتين. يدل هذا المبدأ على أن عملية الملاحظة أو القياس هي التي تحدد أي احتمال من الاحتمالات العديدة سيصبح واقعاً.
في سياق الإدارة، يُشجّعنا مفهوم التراكب على إبقاء عدة خيارات أو سيناريوهات مفتوحة أثناء عملية اتخاذ القرار، بدلاً من التسرع في تبنّي خيار واحد مبكراً، ما قد يغلق مسارات إبداعية واعدة. فوفقاً لمنطق الكم، قد يتجنب القائد إصدار حكم سريع بشأن مشكلة معقدة، ويسمح بدلاً من ذلك ببقاء مجموعة من الحلول أو الاستراتيجيات المحتملة قيد التطوير بالتوازي. هذه المقاربة تعزز الابتكار؛ لأن عدم قياس الموقف بشكل مبكر يبقي جميع الحلول ممكنة لفترة أطول.
التشابك الكمي وتعزيز ترابط فرق العمل:
يصف التشابك الكمي ظاهرة عجيبة ترتبط فيها جسيمات متعددة معاً بحيث تصبح حالة أحدها مؤثرة فوراً في حالة الآخر مهما تباعدت المسافة بينهما. أطلق آينشتاين على ذلك وصف «فعل شبحي عن بعد» للتعبير عن غرابته، إذ تتصرف الجسيمات المتشابكة كوحدة واحدة متناغمة، حتى لو فصلت بينها سنوات ضوئية. في عالم الإدارة، يُعَد هذا التشابك نظيراً للعلاقات المترابطة بعمق بين الأفراد وفرق العمل والأقسام المختلفة داخل المنظمة، وحتى بين الشركة وأطرافها الخارجية. فكثيراً ما نشهد أن تغييراً أو قراراً في جزء من المؤسسة قد يؤثر آنياً في أجزاء أخرى منها، كما لو كانت هذه الأجزاء متشابكة بشكل غير مرئي.
من منظور القيادة، يلهمنا مبدأ التشابك لبناء ثقافة مؤسسية قائمة على الترابط والتعاون بدل العقلية الانعزالية. فالقائد الكمومي يدرك أن فرق العمل وأصحاب المصلحة مترابطون بطرق تتجاوز الهياكل التنظيمية الرسمية، فيسعى إلى الاستفادة من هذه الاتصالات الخفية لدعم التعاون والابتكار عبر الأقسام المختلفة. يعني ذلك تشجيع قيم ومشاعر مشتركة تتزامن عبر المنظمة، فإذا تحسّنت حالة فريق ما وارتفع أداؤه أو معنوياته، ينعكس ذلك إيجاباً على الفرق الأخرى، تماماً كما تؤثر حالة جسيم متشابك في الآخر.
} ثنائية الموجة والجسيم بين الرؤية الشمولية ودقة التنفيذ:
من أغرب مبادئ الكم وأكثرها رمزية ثنائية الموجة والجسيم، حيث تظهر الجسيمات دون الذرية مثل الإلكترون أو الفوتون خصائص مزدوجة؛ فهي تتصرف أحياناً كجسيمات منفردة ذات موقع محدد، وفي أحيان أخرى كموجات منتشرة في الفضاء، وذلك وفقاً لطريقة رصدنا لها. أبرز برهان تجريبي على هذه الظاهرة هو تجربة الشق المزدوج، حيث وُجد أنه عند إطلاق الإلكترونات عبر شقين نحو شاشة، فإنها تكوّن سلوكاً يشبه الموجات طالما لم نلاحظ مسار كل إلكترون على حدة. أما عند مراقبة أي شق يعبر منه الإلكترون، فيختفي نمط التداخل وتظهر الإلكترونات كجسيمات تتجمع خلف كل شق منفصل في تبدّل غريب يؤكد اعتماد طبيعة الإلكترون على كيفية قياسنا له. هذه الازدواجية في السلوك تعني أن الحقيقة نفسها يمكن أن تُرى بصورتين متناقضتين ظاهرياً حسب الزاوية أو الأسلوب الذي ننظر به إليها.
في عالم الإدارة، تمنحنا ثنائية الموجة والجسيم دلالة مجازية على ضرورة تمتع القائد بمرونة في الأسلوب ونهج متعدد الأوجه. فلا يوجد أسلوب قيادي واحد صحيح يصلح لكل المواقف؛ بل القادة الأكثر نجاحاً هم الذين يتقنون الموازنة بين النهجين المتناقضين ظاهرياً ويتنقلون بينهما حسب الحاجة. أحياناً يجب على المدير أن يتصرف كـجسيم، أي بحزم وتركيز شديد واتجاه مباشر نحو الهدف خصوصاً في الأزمات أو المواقف التي تتطلب قرارات سريعة وحاسمة.
وفي أحيان أخرى، يكون من الأفضل له أن يتصرف كموجة أي بأسلوب مرن منتشر يستوعب مختلف الآراء ويمنح مساحة أكبر للتكيف والإبداع، وذلك في مواقف مثل الابتكار أو قيادة التغيير حيث تنفع المقاربة المنفتحة غير المحدودة. القائد الكمومي البارع يعرف متى يكون جزيئياً ومتى يكون موجياً، متى يحتاج إلى التركيز والدقة لفرض النظام والتقدم المباشر (نهج الجسيم)، ومتى عليه توسيع العدسة واحتضان التنوع واللايقين لإطلاق العنان لإمكانات فريقه (نهج الموجة).
لقد ولّى زمن الإدارة القائمة على الخطية المطلقة واليقين التام؛ فالقادة الأكثر تأثيراً اليوم وفي المستقبل هم أولئك الذين يدركون أن كل العناصر في المنظمة مترابطة، وأن حضورهم وتفاعلهم يشكّلان النتائج، وأن الفرص الكبرى تولد في قلب المجهول وعدم الوضوح. إن تبنّي نموذج الإدارة الكمومية يشجع على التفكير الإداري غير التقليدي، فهو تفكير يجمع بين العلم والإنسانية في آن واحد.

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا