تصر فنزويلا على تحدي الموقف الأمريكي العدائي تجاهها، على الرغم من الفوارق الكبيرة بينهما على مختلف الأصعدة، بما في ذلك العسكرية والاقتصادية، حتى وإن رأى البعض أن هذا التحدي ليس سوى "كلامًا لحفظ ماء الوجه". ومن بين المواقف الفنزويلية المثيرة مؤخرًا، إعلانها يوم الأربعاء أن صادراتها من النفط لم تتأثر بإعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" فرض حصار على الناقلات المرتبطة بالبلاد، حيث قالت إن عمليات شحن الخام ومشتقاته مستمرة بشكل طبيعي وإن السفن تبحر "بأمان تام". لطالما اتبعت فنزويلا نفس أساليب روسيا وإيران للالتفاف على العقوبات الأمريكية الخانقة المفروضة على قطاعها النفطي، مستخدمةً أسطولاً غامضاً من السفن القديمة لنقل النفط الخام إلى عملائها، لكن واشنطن لم تتبع نهجًا عسكريًا متشددًا كهذا مع موسكو وطهران. ربما أيضًا سمحت الولايات المتحدة باستمرار تدفق النفط الإيراني والروسي للتأكد من عدم حدوث صدمة في المعروض، لكن بالنسبة لفنزويلا التي تراجع إنتاجها بشكل كبير في السنوات الماضية، فإن الحصار البحري يهدد بتدمير سوق سوداء ضخمة تغذي خزانة البلاد وتدعم السوق العالمية. مع ذلك، فإن التحركات الأمريكية قد يكون لها تداعيات – مقصودة أو غير مقصودة – تتجاوز فنزويلا إلى أكبر منتجي ومستهلكي النفط في العالم.. فكيف ذلك؟ ما النتائج المباشرة للحصار؟ - وفقًا للخبير الاقتصادي الفنزويلي "أسدروبال أوليفروس"، فإن الناقلات التي يعتزم الجيش الأمريكي استهدافها تمثل نحو 70% من صادرات البلاد، والتي تُرسل في معظمها إلى مشترين آسيويين يدفعون بالعملات المشفرة. - إن فقدان الوصول إلى هذه الشبكة من السفن سيُقلل من إيرادات فنزويلا بنحو 8 مليارات دولار سنويًا، بحسب تقديرات "أوليفروس". عادت بعض الناقلات الخاضعة للعقوبات أدراجها بالفعل لتجنب البحرية الأمريكية في البحر الكاريبي. - الحقيقة المُرّة بالنسبة لفنزويلا هي أنها أكثر عرضةً لحظر النفط، لأنها ليست قوة عسكرية مثل روسيا أو إيران، اللتين تواجهان أيضًا عقوبات نفطية أمريكية تُطبّق بشكل انتقائي للغاية، وأيضًا بسبب أهمية البلدين للسوق العالمية والتي تجعل الضغط عليهما سلاحًا ذا حدين. - إن تطبيق الولايات المتحدة الصارم للعقوبات سيؤدي إلى تقليص تدفقات العملات الأجنبية، مما يفاقم نقص الغذاء والوقود في بلد يعتمد بشكل كبير على الاستيراد، ويغذي التضخم الذي يتوقع صندوق النقد الدولي وصوله إلى نحو 700% العام المقبل. - تنتج فنزويلا حوالي 900 ألف برميل من النفط يوميًا، وهو رقم ضئيل مقارنة بذروته البالغة 3.5 مليون برميل يوميًا في أواخر التسعينيات، وحاليًا، النفط غير الخاضع للعقوبات الذي يغادر البلاد هو ما تنقله شركة "شيفرون"، التي تتمتع باستثناء محدود من القيود المالية الأمريكية. - لشحن النفط، تلجأ فنزويلا إلى ما يُعرف بالأسطول الخفي المكون من 900 سفينة، وهي فكرة تبنتها إيران أولًا عندما فُرضت عليها عقوبات قاسية قبل أكثر من عقد، ثم روسيا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية. - تستخدم هذه الشبكة ناقلات قديمة، ترفع أحيانًا أعلام دول أخرى، وتُجري عمليات نقل النفط الخام من سفينة إلى أخرى لإخفاء مصدره، وتُعطل أجهزة الإرسال والاستقبال التي تكشف مواقعها. هل لترامب أطماع خفية؟ - أعلن الرئيس الأمريكي، الثلاثاء، فرض "حصاراً شاملاً وكاملاً على جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات، سواءً المتجهة إلى فنزويلا أو الخارجة منها"، قائلًا إن البلد محاصر تماماً بأكبر أسطول بحري جُمع في تاريخ أمريكا الجنوبية. - وصف مسؤولون أمريكيون ما أسماه ترامب "حصاراً" بأنه أقرب إلى حجر صحي، إذ ستظل ناقلات النفط التي تعمل بشكل قانوني تتمتع بحرية المرور، فيما سيعتبر الحصار الحقيقي عملاً حربياً بموجب القانون الدولي. - رغم أن الإدارة الأمريكية أشارت مرارًا إلى حكومة "نيكولاس مادورو" باعتبارها "غير شرعية" و"ديكتاتورية" و"متورطة في تجارة المخدرات"، لم يخف "ترامب" اهتمامه بموارد البلاد، التي تمتلك أكبر احتياطيات نفطية في العالم. - في إعلانه عن الحصار، قال: "لقد استولوا على جميع حقوقنا في مجال الطاقة، واستولوا على كل نفطنا، منذ وقت ليس ببعيد، ونريد استعادته"، في إشارة ربما إلى تأميم قطاع النفط الفنزويلي. - هيمنت شركات النفط الأمريكية على صناعة النفط في فنزويلا حتى تحرك قادة البلاد لتأميم القطاع، أولاً في سبعينيات القرن الماضي، ثم مرة أخرى في القرن الحادي والعشرين في عهد "مادورو" وسلفه "هوجو تشافيز". - اعتُبرت التعويضات التي عرضتها فنزويلا غير كافية، وفي عام 2014، أمرت هيئة تحكيم دولية الحكومة الاشتراكية في البلاد بدفع 1.6 مليار دولار لشركة "إكسون موبيل". ماذا يعني للسوق العالمية؟ - تنقل شبكة السفن السرية النفط بشكل أساسي إلى الصين، وبدرجة أقل إلى كوبا، مستخدمةً عدة أساليب لإخفاء المنشأ والاسم ومسارات الشحن، وذلك للتحايل على اللوائح الأمريكية. - صدرت فنزويلا ما يزيد قليلاً على 780 ألف برميل يوميًا في أكتوبر، منها 100 ألف برميل إلى الولايات المتحدة (عبر "شيفرون"، والتي ستكون مستثناة على الأرجح من الحصار)، والباقي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الصين. - حتى الآن لم تتأثر الأسواق كثيرًا، وارتفع سعر النفط بنحو 1% الأربعاء (عقب الإعلان مباشرة). في الظروف العادية، فإن إزاحة مليون برميل يوميًا من السوق العالمية يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بنحو 10 دولارات، وفقًا لحسابات "جولدوين جلوبال استراتيجيز". - لذا فإن الحصار الكامل لجميع صادرات فنزويلا (ما لم يتم تعويضها من قبل منتجين آخرين) سيرفع سعر النفط بما يتراوح بين 5 و8 دولارات للبرميل، لكن في النهاية سيتوقف كل شيء على كيفية تطبيق الحصار. أين يكمن الخطر الأكبر؟ - كما أشرنا في السابق، الصين ستكون أبرز المتضررين من منع تدفق النفط الفنزويلي (الرخيص) إلى الأسواق، وعارضت بكين صراحة ما وصفته بـ "التنمر الأحادي" من جانب واشنطن، في إشارة إلى تحركاتها الأخيرة ضد فنزويلا. - مع ذلك، فإن الصين يمكنها البحث عن بدائل أخرى للإمدادات الفنزويلية ولن يكلفها الأمر سوى بعض الوقت ومزيد من المال، المشكلة الرئيسية هي ما تبعث واشنطن به من رسائل مقلقة بشأن روسيا وإيران. - قالت موسكو، الخميس، إنها تأمل في أن يتجنب "ترامب" ارتكاب "خطأ فادحًا" في التعامل مع فنزويلا، معربة عن "قلقها المتزايد" من القرارات الأمريكية الأخيرة التي تمثل "تهديداً مباشراً لأمن الملاحة الدولية". - يرى مراقبون أن الأسطول الخفي الذي تستعين به فنزويلا وروسيا وإيران هو "شبكة واحدة"، ولضمان التأثير على كاراكاس يجب على الولايات التعامل مع الأسطول بأكمله والقائمين عليه، ما قد يكون له تداعيات كبيرة على موسكو وطهران وأولئك الذين يشترون النفط منهما. - تبلغ صادرات روسيا من النفط الخام نحو 3.61 مليون برميل يوميًا (وذلك دون احتساب صادرات الوقود التي ترفع هذا الرقم إلى الضعف تقريبًا)، فيما تتراوح صادرات إيران من الخام والمكثفات بين 1.5 مليون و1.7 مليون برميل يوميًا، وفقًا لتقديرات مستقلة. - إن بقاء الأسطول الخفي يعتمد على افتراض التسامح والغموض، لكن الإجراءات المتخذة ضد فنزويلا تشير إلى تراجع هذا الافتراض، وبالنسبة لاقتصاد حربي يعتمد على عائدات الطاقة، فإن هذا التحول له أهمية بالغة. - بالعودة إلى حسابات "جولدوين" فإن محاولة إلحاق الضرر بصادرات روسيا وإيران قد يعني إضافة بضعة دولارات أخرى (أو حتى عشرات الدولارات في السيناريو الأسوأ) إلى أسعار النفط، وهو أمر قد لا يروق لـ "ترامب" وسيدفع تكلفته الأمريكيون والغرب في نهاية المطاف، ناهيك عن ردود الفعل الروسية والصينية الغاضبة. فهل يغامر "ترامب" باستقرار الأسواق وبعلاقاته الهشة مع الصين وروسيا لتحقيق أطماعه؟ المصادر: أرقام- وول ستريت جورنال- المجلس الأطلسي- فورتشن- فرانس 24- رويترز- بلومبرج- فورتيكسا