من أصعب الأعمال الفنية، أن تكتب وتصور فيلماً أو مسلسلاً عن شخصية مشهورة حاضرة في أذهان الناس، سواء كانت لا تزال على قيد الحياة، أم رحلت لكنها باقية وبقوة بفضل كبر تأثيرها وبصمتها التي تركتها وبقيت خالدة وستبقى، مثل كوكب الشرق أم كلثوم؛ ومن يشاء خوض هذه المغامرة عليه أن يضع في حسابه مجموعة خطوط حمر لا يجب تجاوزها، مثل تشويه أو إحداث خلل في صورة أصلية ثابتة عن تلك الشخصية وما لها من قيمة ورمزية في العالم العربي، بل قل في العالم، لأن شهرة أم كلثوم تجاوزت حدود شرقنا وأمتنا وبلغت الغرب بكل شموخ، ومثلما عرف العالم إديث بياف، عرف أيضاً أم كلثوم التي قيل عنها الكثير وعن قوة صوتها الفريدة، ولم يكن مسرح «الأولمبيا» الوحيد الشاهد على انبهار الغرب بـ «الست». لذلك يقودنا الفضول أولاً لاستكشاف ما خرج به صناع فيلم «الست» من عالم سيدة الغناء العربي، كما يقودنا حبنا لرموزنا لأن ندقق في التفاصيل ونسأل عن أسباب تقديم وجه غير معروف ولا مألوف ولا مرغوب عن كوكب الشرق؟ ولماذا بقي الفيلم أبعد ما يكون عن «الست» لدرجة أننا شعرنا بأن الكل حضر ما عدا أم كلثوم؟لا مجال لكاتب السير الذاتية أو لمن «يستوحي» عملاً من سيرة شخصية مهمة أن يسرح بخياله بعيداً، فيجمّل القبح ويقبّح الجمال مثلاً، لأنه بخروجه عن الخطوط الأساسية والعريضة للشخصية وللأحداث التي عاصرتها وما واجهته في حياتها وردود أفعالها ومواقفها، يكون قد خرج عن الشخصية ذاتها ولم يعد وفياً لها ولا للجمهور ولا لسيرة حياتها، وبالتالي لا يحق له أن يسمي أبطاله بأسماء الشخصيات الحقيقية؛ وحين عقد صناع فيلم «الست» العزيمة لتقديم فيلم «مستوحى» من سيرتها الحقيقية، كما يقولون، كانوا يعلمون جيداً أنهم يحتاجون إلى دقة شديدة ومصداقية في الكتابة، إذ لا يمكن أن يغيب عن بال الكاتب أحمد مراد أن سيرة أم كلثوم معروفة وسبق تناولها على الشاشة، ولا يمكن تقديم فيلم تكون بطلته الرئيسية وكل أحداثه عنها وعن جوانب مختلفة من حياتها وأن يكون في نفس الوقت «مستوحى»، فالكلمة هنا مجرد غطاء لحماية فريق عمل الفيلم من تدقيق الجمهور والنقاد في أي تفصيلة تبدو غريبة وغير حقيقية، خصوصاً أن مسلسل «أم كلثوم» الذي شاهدناه عام 1999 من إخراج إنعام محمد علي وتأليف محفوظ عبد الرحمن، وبطولة صابرين ومجموعة كبيرة من النجوم، مازال حاضراً في الأذهان ونجاحه يطغى على كل عمل أتى ويأتي من بعده.فلنترك الضجة التي يشكك البعض في أنها مفتعلة كنوع من لفت الانتباه إلى الفيلم الذي بمجرد صدور «برومو» ترويجي له، اشتعلت «السوشيال ميديا» بين رافض لتجسيد منى زكي دور أم كلثوم، ومؤيد لها بانتظار الحكم بعد المشاهدة. اسم المخرج مروان حامد كاد أن يمنحنا الثقة بأن الفيلم سيكون متقناً على الأقل إخراجياً، ولكن هل الإخراج وحده يكفي؟ وهل اسم «الست» وسيرتها وأهمية مكانتها تكفي لإنجاح أي عمل؟ هذا الفيلم يثبت أن أم كلثوم ليست سهلة المنال، ولا يمكن أن تحمل أي فنان وأي كاتب وأي مخرج إلى أعلى مناصب النجاح ما لم يجيدوا وضع بصمة تليق بسيرتها ونجاحها وقيمتها، وتضيف لما هو معروف عنها وعن حياتها وموهبتها وشدة ذكائها وعنفوانها. لكن ما رأيناه أبعد ما يكون عن احترام ذلك، إذ جاءت الصدمة تلو الأخرى ويا ليتها وقفت عند حدود الشكل والاختلاف حول ما إذا كانت منى زكي مناسبة للشخصية، وعند حدود الماكياج الذي فشل في الاقتراب من هالة وهيبة وقامة أم كلثوم وبنيانها الجسدي. الصدمة كبيرة بما كتبه أحمد مراد والمواصفات التي تم إلصاقها بكوكب الشرق، والتي تعتبر مهينة بحقها وبحق هذا الرمز العربي الأصيل. إيقاع سريعبذكاء شديد تعامل المخرج مروان حامد مع المتلقي، فاستعجل إلى إبهاره باستخدام التقنيات للمزج بين لقطات حقيقية من الماضي واستكمالها بحياكة متينة بلقطات تمثيلية مصورة، وبالإيقاع السريع وبانطلاق الأحداث من حفل «الأولمبيا» في باريس والذي يبرز إلى أي مدى وصلت شهرة أم كلثوم ونجوميتها في العالمين العربي والغربي؛ لكن مروان حامد لم يكمل بنفس الترتيب أحداثه، أخذنا في قفزات تاريخية غير متسلسلة، مرة نراها طفلة في السنبلاوين مع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وشقيقها خالد، يمشون مسافات من أجل الغناء في الموالد والحفلات، ومرة نراها على طريق الشهرة، ثم نعود إلى البدايات قبل أن نكمل معها تسلق سلم المجد. تلك الحقائق التي كتبها أحمد مراد لم نفهم لماذا حشر بينها بعض الألغام لتنفجر في وجوه المشاهدين، مثل مشهد تبصق فيه أم كلثوم الطفلة في زجاجة «كازوزا» أعطاها إياها صاحب حفل غنت فيه، كي تمنع شقيقها من مشاركتها شربها، يصر أحمد مراد على تقديم لقطات ترسخ في أذهان المشاهدين أن هذه «الست» كانت بخيلة منذ طفولتها، وأنانية تعشق المال وتبخل على كل من حولها، بل تخوّن أقرب الناس إليها شقيقها خالد، امرأة متعنتة، لم نرها تبتسم إلا نادراً جداً، كان الكل يخاف منها ليس بسبب هيبتها، بل بسبب تسلطها وأنانيتها، لدرجة أن الكاتب ركز كثيراً ومطولاً على أنها عاشت في بيتها وحيدة، لم يستحمل حتى أقرب الناس إليها العيش معها، شديدة التوتر والخوف، غير واثقة وفي نفس الوقت عنيدة متمسكة بآرائها، مستغلة لكل الناس، استغلت حب أحمد رامي ورفضت الزواج به ليستمر في شغف الكتابة لها، استغلت العازفين في فرقتها الموسيقية وهددتهم بقطع لقمة عيشهم إذا لم ينتخبوها في حملتها ضد الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأنها فازت بمنصب نقيب الموسيقيين بهذه الطريقة، وكانت تتلعثم ولم تغن الأغنية الوطنية الخالدة «مصر التي في خاطري» إلا بأوامر من قيادة الثورة، وبدت منزعجة غير راضية، بل عاجزة عن حفظ كلمات الأغنية، علاقتها بجمال عبد الناصر متوترة؛ لم نفهم لماذا جعلها الكاتب أشبه بصائدة الرجال، تضع عينها على من تختار منهم فتغازله بنظراتها، أحمد رامي، والملحن محمد القصبجي، والملحن محمود الشريف، وشريف باشا صبري شقيق الملكة نازلي، وطبيبها الدكتور حسن الحفناوي الذي يبدو أنه لم يتجرأ على طلب يدها للزواج إلا بتشجيع منها؛ وشراهتها بدت أيضاً في الأكل والتدخين. كرم وذكاءهل هي نفس «الست» التي اشتهرت بشخصية مختلفة تماماً وعرفها الناس بكرمها وسخائها وذكائها وفطنتها، وإتقانها الشديد لعملها، وبأنها أول امرأة تحمل لقب نقيب في مصر، وأول نقيب للموسيقيين، وأول من فتحت باب التبرعات من أجل المجهود الحربي عبر إقامة حفلات داخل مصر وخارجها وجمعت مبالغ طائلة بالعملة المحلية والأجنبية؟ هل هي نفسها أم كلثوم التي لم تترك مناسبة إلا وتحدثت باحترام وحب عن والدها وعن بداياتها وأسرتها التي حاوطتها؟ هل هي نفس «الست» الوقورة التي كان يضرب بها المثل بلباقتها وشياكتها وملابسها وحرصها على اختيار الإكسسوارات والشامخة الواثقة من نفسها ومن قدراتها وصوتها، والتي لم ترتعش وترتبك على المسرح كما أظهرها الفيلم، رغم تصريحها في أحد حواراتها الموثقة بإحساسها الدائم بالخوف كلما فتحت الستارة في كل حفلة، وخوفها نابع من إحساسها بالمسؤولية تجاه الجمهور ومن رأيه.«الست» فيلم ضل طريق أم كلثوم، لذلك نتمنى أن لا تشاهده الأجيال التي لم تعرف كوكب الشرق، حتى لا ترسخ في أذهانهم صورة مغلوطة عنها غير متطابقة مع الحقيقة. منى زكي ظلمت نفسها، فهي بقيت طوال الفيلم تجتهد في الأداء وكأنها مكبّلة تريد النجاح بأي شكل، لم يسعفها الشكل ولا الماكياج، ولا طبقة صوتها في المواقف التي تعبر فيها عن الحزم والإصرار، كما أن مروان حامد ركز الكثير من اللقطات على عينيها فقط، ولقطات على تعرّق اليدين ورعشتهما. كل النجوم المشاركين أدوا أدوارهم وفق المساحة المتاحة، وما أكثرهم، محمد فراج لم يقترب كثيراً من روح وشخصية الكاتب والشاعر أحمد رامي، عمرو سعد لم يجسد شخصية جمال عبد الناصر، بل جسد أحمد زكي خلال أدائه جمال عبد الناصر. [email protected]