بعد أن شغلت ظاهرة «الاستقالة الصامتة» أوساط العمل خلال السنوات الماضية، والتي كان الموظفون يعبرون فيها عن رفضهم للضغوط من خلال أداء الحد الأدنى من مهامهم دون مبادرة أو التزام إضافي، يواجه أصحاب الأعمال اليوم تحدياً جديداً أكثر تعقيداً أُطلق عليه اسم الانهيار الصامت (Quiet Cracking).
وهذه الظاهرة، بحسب خبراء الموارد البشرية، تمثل حالة صامتة من المعاناة التي يعيشها الموظفون، حيث يواصلون الحضور إلى العمل وأداء مهامهم اليومية، لكنهم يعانون داخلياً ضغوطاً متزايدة، ما يؤثر في صحتهم النفسية ومستويات إنتاجيتهم.
برز المصطلح مؤخراً في تصريحات فرانك جامبيتريو، الرئيس التنفيذي لرفاهية الموظفين في شركة «إرنست آند يونغ» في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال مقابلة مع موقع «بيزنس إنسايدر».
وأوضح جامبيتريو أن «الانهيار الصامت» يتمثل في أن الموظف لا يتخلى عن وظيفته، بل يبقى متمسكاً بها في ظل عدم وضوح البدائل في سوق العمل، إلا أنه لا يزدهر داخل بيئة العمل ولا يشعر بالرضا أو الإنجاز، ما يجعله يؤدي مهامه في حالة من الصمت والتوتر الداخلي.
سوق عمل ضاغط وخيارات محدودة
يرى جامبيتريو أن السبب الرئيس وراء تفاقم هذه الظاهرة يعود إلى حالة عدم اليقين الاقتصادي التي تسود الكثير من الأسواق. فقد تراجعت معدلات التوظيف في قطاعات عدة، وأصبحت فرص التنقل الوظيفي أقل جاذبية من ذي قبل، خصوصاً بعد أن أظهرت البيانات أن البقاء في الوظيفة الحالية قد يكون أفضل على المدى القصير من ناحية الأجور مقارنة بالانتقال إلى وظيفة جديدة. وهذا الواقع دفع العديد من الموظفين إلى الشعور بأنهم «عالقون» في أماكن عملهم، ليس لأنهم يفضلون البقاء، بل لأن البدائل غير متاحة أو محفوفة بالمخاطر.
إن «الانهيار الصامت» لا يقتصر على فقدان الحافز، بل يتعداه إلى فقدان الشعور بالانتماء وتراجع الإبداع والابتكار. وقد يبدو الموظف ملتزماً أمام زملائه أو مديريه، لكنه يعيش داخلياً حالة من الإرهاق النفسي الذي قد يقوده إلى الاحتراق الوظيفي في نهاية المطاف.
تكاليف اقتصادية ومعنوية باهظة
هذه الظاهرة ليست مجرد قضية فردية، بل لها انعكاسات واسعة على بيئة العمل والاقتصاد العالمي ككل. وبحسب تقرير حديث لمؤسسة «غالوب»، انخفضت نسبة انخراط الموظفين عالمياً من 23% إلى 21% في العام الماضي، وهو ثاني انخفاض يُسجَّل خلال 12 عاماً بعد عام 2020. ووفقاً للتقرير ذاته، فإن تراجع مستويات الانخراط الوظيفي كلّف الاقتصاد العالمي نحو 438 مليار دولار في صورة إنتاجية مفقودة.
وهذا التراجع يعكس بوضوح أن الانهيار الصامت لا يُضعف فقط الروح المعنوية داخل المؤسسات، بل يهدد أيضاً استقرار الأداء العام ويقود إلى خسائر مالية ملموسة. وفي ظل التغييرات التي تشهدها الشركات، مثل إعادة النظر في أنظمة التقييم والترقية، وفرض سياسات العودة إلى المكاتب، وتنفيذ موجات تسريح جماعية، أصبحت بيئة العمل أكثر توتراً وتعقيداً، ما يضاعف من احتمالية تفشي هذه الظاهرة.
علامات تحذيرية لا يجب تجاهلها
يشير جامبيتريو إلى أن الانهيار الصامت قد يشبه في بعض مظاهره الإرهاق أو الاحتراق الوظيفي، لكنه غالباً ما يكون أقل حدة في البداية وأكثر صعوبة في الرصد. ومن أبرز العلامات التحذيرية التي يمكن أن يلاحظها المديرون أو الزملاء: زيادة الشكوى من التعب أو الصداع المتكرر، وتراجع مستويات الأداء لدى موظف كان يُعتبر سابقاً من أصحاب الكفاءة العالية، أو تغيرات واضحة في السلوك مثل فقدان الحماس أو انخفاض التفاؤل المعتاد.
ويرى الخبراء أن الخطأ الأكبر الذي قد يقع فيه المديرون هو تفسير هذه العلامات على أنها مجرد ضعف في الأداء، دون التحقق من أسبابها الفعلية. ففي كثير من الأحيان يكون الموظف بحاجة إلى دعم نفسي أو تخفيف الضغوط، أكثر من حاجته إلى تقييم سلبي أو توبيخ.
الحاجة إلى نهج إداري مختلف
إن التعامل مع الانهيار الصامت يتطلب تغييراً في أسلوب الإدارة، بحيث يصبح التركيز أكبر على رفاهية الموظفين وبناء ثقافة عمل صحية. ويقترح الخبراء حلولاً عملية، منها تخصيص وقت للتواصل الفردي مع الموظفين، وتقديم مبادرات لدعم الصحة النفسية، فضلاً عن إظهار قدر أكبر من التعاطف الإنساني. وحتى الملاحظات البسيطة مثل قول: «لقد لاحظت تغيراً في سلوكك، هل كل شيء على ما يرام؟» يمكن أن تصنع فارقاً كبيراً في تعزيز الثقة وفتح باب الحوار.
لكن التحدي يكمن في أن العديد من المؤسسات خفّضت استثماراتها في برامج رفاهية الموظفين بعد انتهاء أزمة الجائحة، مبررة ذلك بتراجع معدلات الاستقالات الجماعية ورغبتها في تقليص التكاليف. غير أن تجاهل الجانب النفسي للموظفين قد يضع هذه المؤسسات أمام خسائر أكبر على المدى الطويل، سواء من حيث الإنتاجية أو من حيث فقدان الكفاءات.
ظاهرة تستحق الانتباه
في النهاية، يمثل «الانهيار الصامت» ناقوس خطر جديداً في عالم العمل. فبينما تمكنت المؤسسات من التعامل مع موجة «الاستقالة الصامتة» عبر تعزيز المشاركة والتقدير، فإن التحدي الحالي يتطلب استراتيجيات أعمق وأكثر استدامة. الموظفون اليوم ليسوا فقط بحاجة إلى أجور تنافسية أو ترقيات، بل بحاجة أيضاً إلى بيئة توفر لهم الشعور بالأمان والدعم النفسي. وإذا لم يتم التعامل مع هذه الظاهرة بجدية، فقد نجد أنفسنا أمام أزمة إنتاجية عالمية أعمق بكثير مما شهدناه خلال السنوات الماضية.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
