لا يمكن النظر إلى ظاهرة الشاعر حسن أبو علّة بوصفها حدثاً أدبياً عابراً، بل باعتبارها لحظة ثقافية كاشفة، تضع المشهد الشعري العربي أمام مرآة غير مريحة. فهي ظاهرة لا تتوقف عند القصيدة، بل تتجاوزها إلى السؤال عن السياق، وعن الكيفية التي يُصنع بها الحضور، وتُمنح عبرها الرمزية، وتُدار من خلالها العلاقة الملتبسة بين الجرأة الفكرية، والاستفزاز، والانتشار. في حواره مع منصة «ثمانية»، لم يكن الجدل نابعاً من قراءة نقدية جديدة بقدر ما كان نتيجة نبرة حادة، ومواقف قاطعة، طالت رمزين مركزيين في الوعي الشعري العربي: نزار قباني ومحمود درويش. هنا لم تُقدَّم الأطروحات بوصفها اجتهاداً قابلاً للنقاش، بل كأحكام نهائية، مشحونة بإقصاء رمزي، يُغلق باب التأويل أكثر مما يفتحه. ومن حيث المبدأ، لا يمكن مصادرة حق أي شاعر أو ناقد في الاختلاف، ولا في مراجعة التجارب الكبرى، فالنقد الأدبي وُجد ليهزّ المسلّمات لا ليقدّسها. غير أنّ الإشكال لا يكمن في «ماذا قيل»، بل في «كيف قيل»، ثم، وهذا الأخطر، في ما جرى بعد ذلك. فحين يُستبدل التحليل بالتوصيف، ويحلّ القطع محل التفكيك، تتحوّل الآراء الصادمة من مادة نقدية محتملة إلى وقود للجدل السريع. الأسئلة الحقيقية تبدأ بعد لحظة التصريح. كيف تنتقل الآراء المتطرفة من حيّز النقاش إلى حيّز التداول الواسع؟ وكيف يصبح الاستفزاز، لا المنجز، هو العنوان الأبرز؟ ومتى يتحوّل الهجوم على الرموز إلى طريق مختصر نحو الظهور، وربما الشرعية؟ إنّ أخطر ما في هذه الظاهرة ليس المساس بأسماء كبيرة كقباني ودرويش، فالتاريخ الأدبي أكثر رسوخاً من أن تهزّه آراء فردية، بل في ما يُكافأ عليه هذا المساس. حين يصبح الصوت الأعلى أكثر جاذبية من النص الأعمق، وحين يُحتفى بالصدمة لا بما تضيفه من معرفة، نكون أمام تحوّل مقلق في ميزان القيمة. في هذا السياق، تلعب المنصات الإعلامية دوراً مضاعفاً. فهي لا تكتفي بنقل الرأي، بل تُسهم، بقصد أو بغير قصد، في تضخيمه، وإعادة إنتاجه، وتحويله إلى «حدث». ومع تراجع المسافة بين النقاش والاستعراض، يصبح الجدل نفسه هو الغاية، لا وسيلة لفهم أعمق أو قراءة مختلفة. المسألة إذاً لا تتعلّق بحسن أبو علّة كشاعر، بل باللحظة التي كُرِّس فيها هذا النوع من الخطاب بوصفه مثيراً وجديراً بالاهتمام. لحظة يُعاد فيها تعريف «الشاعر» لا باعتباره منتج معنى، بل فاعلاً في دائرة الجدل، يُقاس حضوره بمدى قدرته على إحداث الضجة، لا بعمق تجربته أو أثر نصه. وهنا يتّسع السؤال ليشمل المشهد الثقافي العربي عموماً. نحن أمام زمن تتقدّم فيه الإثارة على التراكم، والتداول السريع على القراءة المتأنية، ويُقاس فيه الحضور بعدد المشاهدات لا بمدى بقاء القصيدة في الذاكرة. في مثل هذا المناخ، يصبح الاستفزاز استراتيجية، لا موقفاً فكرياً. ليس المطلوب إدانة شاعر، ولا الدفاع عن رموز، بل التوقف عند المنعطف نفسه. فحين يُكافأ الاستفزاز، ويُحتفى بالقطيعة، ويتراجع الاهتمام بالنص لصالح الحدث، فإنّ الشعر هو الخاسر الأكبر. إذ يُدفع إلى الهامش، وتُفرَّغ القصيدة من بعدها الجمالي، لتتحوّل إلى ذريعة للضجيج لا غايته. هنا لا يعود السؤال: هل نختلف مع الشاعر أم نتفق؟ بل: أيّ ثقافة نريد أن نكرّس؟ ثقافة تسمح بالاختلاف بوصفه فعلاً معرفياً، أم ثقافة تكافئ الصدمة بوصفها أسرع طرق الحضور؟ والسؤال الأخير، وربما الأهمّ: هل ما نراه اليوم مجرّد موجة عابرة، أم ملامح تحوّل أعمق في طريقة صناعة الرموز الثقافية؟