لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تحليل أو برنامج يساعد على تسريع بعض المهام، بل أصبح شريكاً تنفيذياً قادراً على إدارة سير العمل من البداية إلى النهاية بأمر واحد فقط. في قاعات الاجتماعات داخل كبرى المؤسسات العالمية، تتكرر لحظة صمت لافتة: فريق يشاهد عملية معقدة تضم عشرات الخطوات تُنجز خلال دقائق عبر "وكيل ذكي". هنا، لم يعد السؤال: هل سينجح الذكاء الاصطناعي؟ وإنما: هل بنيت مؤسستك أصلاً لتحمّل هذه السرعة؟ هذا التحول الجذري هو محور النقاش حول ما يُعرف بـ"الذكاء الاصطناعي الوكيلي (Agentic AI)"، الذي لم يعد وعداً مستقبلياً، بل واقعاً عملياً يعمل اليوم جنباً إلى جنب مع البشر. تصدعات حقيقية غير أن معظم المؤسسات، التي شُيّدت هياكلها قبل عقود، تجد نفسها في مواجهة تصدعات حقيقية. فأنظمتها صُممت لعالم كانت فيه عملية التنفيذ بطيئة ومكلفة، والحوكمة قائمة على تدخل الإنسان في كل قرار، والقيادة تركز على إدارة الجهد لا توجيه الذكاء. وبدون نموذج تشغيلي جديد، تظل أفضل تجارب الذكاء الاصطناعي حبيسة نطاق ضيق لا يمكن تعميمه. من هنا، يبرز السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن إعادة بناء المؤسسة بالكامل لتتلاءم مع عصر الذكاء الاصطناعي الوكيلي؟ الجواب، كما يتضح من التجارب الميدانية، لا يكمن في مشروع تقني يقوده مدير تقنية المعلومات، بل في إعادة هندسة شاملة تقودها الإدارة العليا، وتطال طريقة العمل، والأدوار، والثقة بين الإنسان والآلة. مؤسسة أبسط..وأكثر جرأة التحول الأول يبدأ من صميم العمل ذاته: ماذا نفعل؟ وكيف ننجزه؟ في الماضي، كانت القدرة على التنفيذ هي القيد الأكبر. أما اليوم، فقد أصبح التنفيذ سريعاً ورخيصاً ومتوافراً، بينما تحوّل التحدي الحقيقي إلى «تنسيق العمل». فالقيمة لم تعد في إنجاز المهمة، بل في ربط المهام بسلاسة عبر الفرق المختلفة. أولى الخطوات الناجحة تتمثل في تجريد العمل من كل ما لا ضرورة له. حين تجتمع الفرق حول لوحة بيضاء وتعيد طرح السؤال الأساسي: ما النتيجة الحقيقية التي نريدها من هذا الإجراء؟ سرعان ما تظهر خطوات لا وظيفة لها سوى أنها «إرث تنظيمي» نجا من دون مساءلة لعقود. طلبات مكررة، نماذج قديمة، مراجعات لا تضيف قيمة. التخلص من هذا العبء التنظيمي يفتح الطريق أمام تدفق العمل بسلاسة. لكن التبسيط لا يتوقف هنا. فغالباً ما تكون نقاط التعطيل الحقيقية بين المهام، لا داخلها: موافقة قانونية تتأخر، توقيع مالي يطيل الدورة. الحل يكمن في تعيين مسؤول واحد واضح عن النتيجة، بينما يتولى الوكيل الذكي توجيه العمل ومتابعته. أدوار جديدة مع الذكاء الاصطناعي الوكيلي، لم تعد قيمة الإنسان تقاس بعدد المهام المنجزة أو الساعات المسجلة. هذه أعمال يمكن للذكاء الاصطناعي إنجازها فوراً. القيمة الحقيقية تنتقل إلى توجيه العمل وصناعة القرار. محلل التسويق الذي كان يقضي معظم وقته في جمع البيانات، يتحول إلى "استراتيجي تأثير الإيرادات"، بينما تتولى الوكلاء الذكية بناء لوحات البيانات وتحليلها. وهكذا، يعاد تعريف الأدوار حول النتائج لا حول المهام. وينسحب هذا التحول على مفهوم النمو الوظيفي. فالسلم الوظيفي التقليدي، القائم على التعمق في مهمة واحدة، يفقد صلاحيته. في عصر الذكاء الاصطناعي الوكيلي، يبرز من يفهم الأنظمة ويصمم تدفق العمل ويطوره. التقدم لم يعد رأسياً فقط، بل أفقياً أيضاً. مدير وسائل التواصل الاجتماعي الذي يتعلم تصميم الأوامر (Prompt Design) قد يصبح مهندس محتوى، والمحلل المالي الذي يفهم منطق سير العمل قد ينتقل إلى عمليات الإيرادات. "التحرك جانبياً" يصبح الشكل الجديد للصعود. الثقة.. نصف المعادلة لا تكتمل إعادة تصميم المؤسسة دون بناء الثقة. فأنظمة الحوكمة التقليدية صُممت لأدوات حتمية يمكن التنبؤ بسلوكها، لا لوكلاء أذكياء يفسرون السياق ويتخذون قرارات. الإشراف اليدوي قد ينجح مع عدد محدود من الوكلاء، لكنه ينهار عند التوسع. الثقة هنا ليست شعوراً، بل بنية أساسية يجب أن تُبنى منذ اليوم الأول. أول عناصرها هو الإشراف القابل للتتبع: سجلات واضحة توضح ما فعله الوكيل ولماذا فعله. الشفافية ليست خياراً تفاوضياً مع مزودي الحلول، بل شرطاً أساسياً للتوسع الآمن. العنصر الثاني هو الثقة عبر التحكم. فالأطر التقليدية لتوزيع المسؤوليات تنهار عندما يبدأ الوكلاء في اتخاذ قرارات. لذلك، يجب تحديد حدود واضحة: ما الذي يمكن للوكيل إنجازه ذاتياً، وما الذي يحتاج موافقة بشرية، وما الذي يبقى حكراً على الإنسان. قواعد السياسات، وتحديد الصلاحيات، ومسارات التصعيد تصبح ضرورة لا ترفاً. أما العنصر الثالث، فهو تقنين العلاقة بين البشر والوكلاء. المخاوف الحقيقية لدى الموظفين لا تتعلق بالخوف من الذكاء الاصطناعي بقدر ما تتعلق بعدم وضوح دورهم. تتطلب مواجهة هذا القلق وضوحاً مؤسسياً: ما الذي سيختفي من الأعمال؟ ما الذي سيصبح مشتركاً؟ وما الذي سيظل إنسانياً خالصاً، مثل الحكم والتفكير الإبداعي والحدس؟ هذه الأسئلة لا يكفيها عرض تقديمي، بل تحتاج إلى اتفاق تشغيلي جديد يحدد بوضوح معنى "العمل الجيد" في هذا العصر. المؤسسة بلا حدود عندما تزول عوائق التنفيذ، وتُبنى الثقة في صميم الأنظمة، يبرز السؤال الأكبر: ماذا يمكن للمؤسسة أن تبنيه الآن؟ ما كان يبدو مستحيلاً يصبح أمراً حتمياً. متجر تجزئة يستطيع إطلاق متجر كامل حول صيحة جديدة خلال أيام. شركة إدارة ثروات تقدم استراتيجيات استثمار مخصصة لملايين العملاء، لا للنخبة فقط. تختصر مؤسسة في علوم الحياة سنوات من تطوير الأدوية إلى أشهر، فتصل العلاجات المنقذة للحياة إلى المرضى بسرعة غير مسبوقة. هنا، تتحرر الفرق من قيود التنفيذ، وتجد المساحة للتفكير الكبير، والتحرك السريع، وحل المشكلات المؤجلة منذ سنوات. إعادة بناء المؤسسة لعصر الذكاء الاصطناعي الوكيلي ليست رفاهية، بل شرطًا للبقاء. وعندما تتكامل القيادة، والنموذج التشغيلي، والثقة، تنفتح أمام المؤسسة آفاق غير محدودة، حيث يعمل الإنسان والذكاء الاصطناعي معاً، لا في مواجهة بعضهما البعض. المصدر: "المنتدى الاقتصادي العالمي"