لطالما شكّلت "المضاربات الخاطفة" أحد أبرز محركات النشاط في أسواق المال العالمية، خاصة في ظل الاعتماد على التداول عالي التردد، واستغلال التقلبات اللحظية للأسعار، والدخول والخروج السريع من الصفقات بحثًا عن أرباح قصيرة الأجل.
وازدهر هذا النمط على نحو جلي خلال السنوات الماضية بدعم من عوامل عدة في مقدمتها انتشار منصات التداول الرقمية منخفضة التكلفة، وتنامي دور الخوارزميات والذكاء الاصطناعي في إدارة السيولة.

غير أن المشهد تغير تدريجيًا في عام 2025، مع تراجع ملحوظ في زخم المضاربات السريعة في عدد من الأسواق الرئيسية حول العالم بحسب بيانات رسمية.
لكن هذا التراجع لا يعني بالضرورة انكماشًا مباشرًا أو تلقائيًا في أحجام التداول الإجمالية، إذ إن حجم التداول لا يرتبط فقط بالمضاربة، بل يتأثر بعدة عناصر أخرى، من بينها طبيعة المستثمرين النشطين في السوق، وأفقهم الزمني، وهيكل الأدوات المالية المتداولة.
وتعكس بيانات بورصة ناسداك على سبيل المثال هذا التحول بوضوح؛ فبحسب الأرقام الرسمية، بلغ متوسط القيمة اليومية للأسهم المتداولة حوالي 5.5 مليار دولار أمريكي (للأسواق التي تعمل ضمن نطاق بورصة ناسداك) في النصف الأول من عام 2025.
في مقابل متوسط يومي قدره نحو 4.7 مليار دولار عن نفس الفترة من عام 2024، بارتفاع بلغ نحو 17%.
ويعني ذلك أن انحسار المضاربات لم يتسبب في جفاف النشاط السوقي، بل أسهم في إعادة تشكيله، مع انتقال جزء من السيولة إلى تداولات أقل تكرارًا وأكثر ارتباطًا بإعادة هيكلة المحافظ الاستثمارية، أو الاستثمار متوسط وطويل الأجل، أو التحوط من المخاطر.
ولكن هل بالضرورة هذا يعني أننا نشهد نهاية فعلية لعصر المضاربات السريعة، أم مجرد تحول مؤقت في شكل النشاط السوقي وآلياته؟
كيف تأثرت أحجام التداول العالمية؟
يُعد حجم التداول في المشتقات المتداولة في البورصات العالمية من أدق المؤشرات على مستوى النشاط المضاربي، نظرًا لاعتماده الكبير على استراتيجيات قصيرة الأجل عالية الرافعة المالية.
وتعتبر المشتقات المتداولة في البورصات بمثابة عقود مالية تستمد قيمتها من أصول أساسية، مثل الأسهم أو المؤشرات أو السلع، ويتم تداولها على منصات رسمية تخضع للرقابة والتنظيم لضمان الشفافية وتقليل مخاطر الطرف المقابل.

ووفقًا لبيانات اتحاد صناعة العقود الآجلة (فيوتشرز إندستري أسوسيشن – إف آي إيه)، شهد عام 2025 تراجعًا حادًا في هذا النوع من التداول في البورصات العالمية.
ففي شهر أغسطس 2025، بلغ حجم التداول العالمي في المشتقات نحو 9.66 مليار عقد فقط، بانخفاض يقارب 50% مقارنة بشهر أغسطس 2024.
كما أظهرت البيانات أن حجم التداول منذ بداية العام وحتى نهاية أغسطس 2025 انخفض بنحو 45% على أساس سنوي، وهو تراجع لافت يعكس فتورًا واضحًا في النشاط المضاربي عالي الوتيرة.
وتُظهر بيانات شهر أبريل 2025 الصورة نفسها؛ إذ انخفض حجم تداول عقود الخيارات عالميًا بأكثر من 45% مقارنة بأبريل 2024.
ورغم تسجيل ارتفاع طفيف في تداول العقود الآجلة، فإن هذا الارتفاع لم يكن كافيًا لتعويض الانخفاض الحاد في الخيارات، التي تُعد الأداة المفضلة للمضاربة السريعة نظرًا لانخفاض تكلفتها وقصر آجالها.
تشير هذه الأرقام بوضوح إلى انحسار موجة المضاربات السريعة التي كانت تميز الأسواق خلال فترات السيولة الرخيصة، حتى وإن استمر التداول لأغراض التحوط أو الاستثمار متوسط وطويل الأجل.
تحول سلوك المتداولين وهيكل السوق
على الرغم من تراجع المضاربات الخاطفة، لم تتراجع المشاركة في الأسواق بشكل عام، فبحسب تقارير رويترز، ارتفعت مشاركة المستثمرين الأفراد في سوق الأسهم الأمريكية خلال عام 2025.
وزادت التدفقات الاستثمارية للأفراد بنحو 53% مقارنة بالعام السابق، وبلغت مساهمتهم ما بين 20 و25% من إجمالي أحجام التداول، مع تسجيل ذروة وصلت إلى 35% في أبريل.

غير أن طبيعة هذه المشاركة تغيّرت؛ إذ أصبح المستثمرون الأفراد يميلون إلى الاستثمار في الصناديق المتداولة في البورصة والقطاعات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، بدلًا من المضاربة اليومية السريعة.
هذا التحول رفع متوسط فترات الاحتفاظ بالأصول، وخفّض حدة التداول اليومي المكثف، وهو ما انعكس مباشرة على أحجام التداول.
ومن بين العوامل التي قلصت المضاربات، معاناة الأسواق العالمية في مطلع 2025 من موجة اضطراب حادة، على خلفية قرارات اقتصادية وسياسية مفاجئة، أبرزها فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق من قبل الولايات المتحدة.
وأدى ذلك إلى انهيار مؤقت في الأسواق خلال أبريل 2025 قبل أن تعاود التعافي لاحقًا، ما عزز حالة الحذر لدى المستثمرين والمؤسسات المالية، ودفعتهـم إلى الابتعاد عن استراتيجيات عالية المخاطر، والتركيز على إدارة المخاطر والتحوط، وهو ما قلص زخم المضاربات.
ماذا عن باقي الأسواق العالمية؟
لا يبدو تراجع المضاربات الخاطفة ظاهرة محصورة بالسوق الأمريكي، بل تشير البيانات إلى أنه اتجاه عالمي، وإن اختلفت تجلياته من سوق إلى آخر.
ففي آسيا، التي تُعد تاريخيًا من أكثر المناطق نشاطًا في تداول المشتقات، برز هذا التحول بوضوح.
وأظهرت البيانات أن تداول عقود الخيارات في الأسواق الآسيوية تراجع بأكثر من 40% على أساس سنوي خلال 2025، مقارنة بمستويات قياسية سجلتها المنطقة في 2023 و2024.
ويكتسب هذا التراجع أهمية خاصة بالنظر إلى الدور المحوري للأسواق الآسيوية في تغذية السيولة العالمية، ما يعني أن انحسار المضاربات فيها كان له أثر مباشر على الأرقام العالمية الإجمالية.

وفي المقابل، شهدت أسهم شركات التكنولوجيا وأشباه الموصلات ارتفاعًا ملحوظًا في أحجام التداول والاستثمارات طويلة الأجل، مدفوعة بتوجهات صناعية واستثمارية تركز على الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة.
ويعكس هذا التحول انتقال شريحة واسعة من المستثمرين الأفراد من المضاربة السريعة إلى استثمارات قائمة على النمو الهيكلي طويل الأمد.
أما في أوروبا، فقد اتخذ التراجع في أحجام التداول طابعًا أكثر هدوءًا، لكنه لا يقل دلالة، فبالرغم من أن مؤشرات الأسهم الأوروبية الرئيسية سجّلت مستويات قياسية جديدة خلال 2025، فإن أحجام التداول ظلت أقل من متوسطاتها في السنوات السابقة.
وتشير تقارير رويترز إلى أن هذا الأداء السعري غير المصحوب بارتفاع قوي في السيولة يعكس سيطرة استراتيجيات استثمارية طويلة الأجل، يقودها مستثمرون مؤسسيون يركزون على إعادة توزيع الأصول وإدارة المخاطر، في ظل بيئة تتسم بارتفاع التضخم وتشديد السياسة النقدية واستمرار التوترات الجيوسياسية.
وبذلك، تكشف قراءة متأنية للأسواق الآسيوية والأوروبية أن تراجع المضاربات الخاطفة لم يؤدِّ إلى انسحاب السيولة من الأسواق، بل إلى إعادة توجيهها.
فالأسواق العالمية تشهد تحوّلًا من نشاط مكثف قائم على السرعة والتكرار، إلى نشاط أقل وتيرة وأكثر ارتباطًا بالاستثمار طويل الأجل والتحوط وإعادة التسعير.
ويدعم هذا الأمر فرضية أن ما نشهده في 2025 ليس انكماشًا في التداول، بل إعادة تشكيل لطبيعته وأدواته على نطاق عالمي.
وتشير البيانات الموثوقة والتحليلات السوقية إلى أن عصر المضاربات الخاطفة، كما عرفته الأسواق خلال سنوات السيولة الرخيصة، قد شهد تراجعًا واضحًا في عام 2025.
فالانخفاض الحاد في أحجام تداول المشتقات، وخاصة عقود الخيارات، يعكس انحسارًا في التداولات قصيرة الأجل عالية المخاطر.
غير أن هذا لا يعني اختفاء المضاربة من الأسواق، بل يشير إلى تحوّل هيكلي في طبيعة النشاط الاستثماري، فالمستثمرون باتوا أكثر ميلًا إلى الاستراتيجيات المستدامة، وإدارة المخاطر، والاستثمار القائم على الاتجاهات طويلة الأمد.
إذا استمرت هذه الاتجاهات خلال عامي 2026 و2027، فقد تدخل الأسواق مرحلة أكثر نضجًا، يكون فيها النشاط المضاربي أقل حدة، وأقرب إلى كونه جزءًا مكملًا للأسواق، لا القوة المهيمنة عليها.
المصادر: أرقام- فيوتشرز إندستري أسوسيشن- رويترز- سي بي أو إي جلوبال ماركتس- كوين دسك- بورصة ناسداك
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
