في عرضٍ اتسم بالهدوء والعمق البصري خلال أسبوع الموضة في باريس، قدّم جيامباتيستا فالي Giambattista Valli مجموعة ربيع وصيف 2026، التي جاءت كتأملٍ في الجمال والسكينة وسط عالمٍ مضطرب، استلهم فالي هذا الموسم من لوحات الطبيعة الصامتة الهولندية ومن الديكورات الداخلية لفنان القرن السابع عشر يوهانس فيرمير، اللذين جسّدا ببراعة لعبة الضوء والظل في لحظاتٍ من الحياة اليومية.

إلا أن فالي لم يكتفِ بالاقتباس البصري، بل حوّل تلك العوالم الساكنة إلى حوارٍ بين الرقة والانضباط، بين الحلم والواقع، وبين الهدوء والتوتر الخفي.

ضوء فيرمير وظلّ العالم الحديث

1. منذ اللحظة الأولى، بدا العرض أشبه بمشهدٍ من لوحة قديمة أعيدت إلى الحياة. أضاءت ألوان الباستيل المائلة إلى الغبار، كالزهري الباهت والرملي والزيتي المتدرج، قاعة العرض بطريقة تحاكي نور النوافذ الذي اشتهر به فيرمير في لوحاته. عكست المجموعة محاولة فالي خلق ملاذٍ من الجمال الهادئ في مواجهة فوضى العالم الحديث.
2. يقول فالي في حديثٍ سابق: “الموضة بالنسبة لي ليست هروبًا من الواقع، بل وسيلة لتهذيبه، هذا بالضبط ما تجسده المجموعة رؤية تُعيد صياغة الفخامة لتصبح تأملية، شفافة، وأكثر ارتباطًا بالإنسان.

حوار الخامات: بين القماش الخشن ورقة الأورجانزا

1. شكل تفاعل الخامات حجر الأساس في سردية فالي البصرية، استعان بمزيجٍ من الأقمشة المتباينة، من القطن الخشن والبوبلين، إلى الأورجانزا والحرير المنسدل، ليصوغ من خلالها تباينًا بين البساطة الريفية والترف البصري.
2. ظهرت فساتين قصيرة مُفصّلة بعناية، تُرتدى أحيانًا فوق قمصان مُجعَّدة بأكمام منتفخة، مزدانة بزخارف تُحاكي أغصان زهورٍ مجففة أو ثمار فاكهة منسية، هذه التفاصيل الدقيقة لم تكن مجرد زينة؛ بل كانت استعارة بصرية للتماس بين الطبيعة والإنسان، بين الفن والحياة.
3. في إحدى الإطلالات اللافتة، نسّق فالي قميص بوبلين بلون الصدأ مع تنورة وبنطال قطني واسع، مضيفًا لمسة أنثوية عبر حجاب رأس من الساتان المصقول يشبه أغطية رؤوس الفلاحات الهولنديات، كأنه جسر بين التاريخ والحداثة.

الرومانسية الهادئة: توقيع فالي المتجدد

• من المعروف أن فالي هو أحد كبار شعراء الرومانسية في الموضة المعاصرة، لكن هذه المرة، كانت الرومانسية أكثر خفوتًا ونضجًا.
• اختفت المبالغة المسرحية التي لطالما ميّزت عروضه، لتحل محلها لغة هادئة تتحدث عن الجمال الداخلي.
• تجلّت هذه الرؤية في فساتين الأورجانزا الشفافة التي طافت على الأجساد بخفة، وفي البلوزات القصيرة ذات القصات الهندسية المتقنة.
• بدت بعض الفساتين المتدرجة ذات الكشكشة وكأنها منحوتة من ألوان الباستيل، زاهية ولكن ليست صاخبة، تتحرك بانسيابية كأنها نسمة بحرية.
• أما الفساتين ذات الأكمام المنتفخة أو التنانير متعددة الطبقات، فحملت شيئًا من خيال الطفولة، ولكن بلمسة وعيٍ أنثوي ناضج.
• أبرزها فستان أبيض مطرّز بخيوط فضية على شكل مئزر، كتحية إلى عوالم فيرمير المنزلية التي تمتزج فيها البراءة بالعزلة.

من الفخامة المسرحية إلى البساطة المتقنة

1. في خطوة لافتة، تخلّى فالي عن أحذيته ذات الكعوب العالية المتقنة ليُقدّم أحذية مسطحة وأخرى بنعلٍ خفيف، مما أكسب العارضات مشية أكثر حرية وواقعية، كما غابت الزخارف الثقيلة لصالح فتحات صدر ناعمة وخطوط رقبة بسيطة، أعادت التركيز إلى جمال التكوين بدلًا من البريق الخارجي.
2. هذا التحول في الأسلوب لم يكن تخليًا عن هوية فالي، بل إعادة تعريفٍ لها، انتقالٌ من الرومانسية المبهرة إلى رومانسيةٍ أكثر صدقًا وهدوءًا، بدا وكأنه يقول إن الأناقة ليست في الزخرفة، بل في الصدق، في تلك اللحظة التي تُصبح فيها الملابس امتدادًا طبيعيًا للمشاعر.

اللوحات تتحول إلى حياة

1. استعان فالي في العرض بخلفيات تُشبه مشاهد لوحات فيرمير، حيث النور ينساب على الأسطح الخشبية، والظلال تُحدّد الأشكال أكثر مما تُخفيها.
2. تحركت العارضات بخطواتٍ بطيئة، كأنهنّ شخصيات خرجت لتوّها من لوحةٍ معلّقة، تحمل في نظراتها سكونًا داخليًا وعمقًا تأمليًا.
3. تكرّر في العرض استخدام الستائر الحريرية والمشربية الخشبية كرموز للفصل بين العزلة والانفتاح، بين الداخل والخارج.
4. إنها استعارةٌ بصرية لرحلة المصمم نفسه في إيجاد التوازن بين الخصوصية والاحتفاء بالحياة.

الإكسسوارات: التفاصيل التي تهمس لا تصرخ

اختار فالي هذا الموسم أن يجعل الإكسسوارات جزءًا من الحكاية، لا بطلتها:

1. ظهرت حقائب صغيرة من الجلد المعرّق بلون العاج، وعقود دقيقة مستوحاة من المزهريات الهولندية، حيث تتدلّى منها حبات لؤلؤ تشبه قطرات الندى، أما المجوهرات، فكانت شبه خفية، تخدم الفكرة العامة بدلاً من التنافس مع الملابس.
2. حتى الشعر والمكياج اتّبعا المبدأ ذاته، وجوه طبيعية بإشراقٍ خفيف، وشعرٌ مرفوع بعفويةٍ أنيقة، أراد فالي أن تظل العين مركّزة على الحركة والملمس والضوء، لا على الزينة.

الفكر الجمالي: التوازن بين التناقضات

1. أعمق ما في هذه المجموعة ليس شكلها، بل فكرتها. فالي لم يصمم فساتين فحسب، بل قدّم تأملًا في العلاقة بين الأنوثة والواقع.
2. في عالمٍ يغرق في الاستهلاك والضجيج، جاءت تصاميمه كدعوة إلى العودة إلى الهدوء، إلى الانتباه للتفاصيل الصغيرة التي تُعيد لنا حسّ الإنسانية.
3. يبدو أن فالي يُدرك جيدًا أن الجمال لا يمكن أن يكون صاخبًا دائمًا؛ بل أحيانًا يكون في الهمس، في الظلال، في لحظة توازنٍ بين البساطة والرقي.

رداءٌ للحظة المعاصرة

• لم تكن مجموعة ربيع وصيف 2026 ثورية بمعناها التقليدي، لكنها كانت عميقة في وعيها بما يعنيه الجمال الآن.
• في وقتٍ تتسارع فيه الموضة نحو الحداثة الرقمية، بدا فالي وكأنه يذكّر العالم بأن اللمسة الإنسانية لا يمكن استبدالها.
• هذه المجموعة لم تُصمَّم لإبهار المنصات، بل لتُلبَس، لتُعاش، لتُذكّر النساء بأن الرقة ليست ضعفًا، بل قوة تُمارَس بهدوء.

كل قطعة بدت وكأنها تريد احتضان من ترتديها، لا تقييدها.

العودة إلى النور

1. مع انتهاء العرض، عاد الضوء ليغمر القاعة، كأن فالي يقول إن كل ما هو هشّ يمكن أن يكون جميلًا، وكل ما هو بسيط يمكن أن يحمل عُمقًا لا يُقاس.
2. لقد قدّم المصمم الإيطالي مجموعة تُعيد تعريف الرومانسية في زمنٍ يحتاج إلى الصدق أكثر من أي وقتٍ مضى، ربيعًا من الهدوء في عالمٍ مضطرب، وصيفًا من النعومة في مواجهة القسوة.

فالي لم يتحدث فقط بلغة القماش؛ بل بلغة الروح، وربما هذا ما يجعل Giambattista Valli واحدًا من آخر الشعراء الحقيقيين في عالم الموضة.