منوعات / صحيفة الخليج

«صوت هند رجب».. صرخة تخترق الجدران والحدود وتهز الضمائر

مارلين سلوم

من «عازف البيانو» أو «ذا بيانيست» عام 2002، والتصفيق الذي حصل عليه خلال عرضه في مهرجان كان السينمائي قبل أن يفوز بالسعفة الذهبية ثم بـ «أوسكار» أفضل إخراج (رومان بولانسكي)، وأفضل سيناريو مقتبس (رونالد هاورد)، وأفضل ممثل (أدريان برودي)، يفهم كيف تجيد السينما التأثير في الجمهور واللعب على عواطف الناس والإصرار على إقناعهم بوقائع تاريخية بعضها حقيقي وبعضها الآخر مبالغ فيه ومفبرك من أجل استدرار العواطف ومواصلة العزف على نغمة «السامية»، فهذا الفيلم مثل مجموعة أفلام أخرى تحكي عن محرقة الهولوكست باعتبارها أبشع جريمة بحق البشرية حصلت في التاريخ؛ في حين يشهد العالم ومنذ عامين أبشع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الأبرياء العزل في غزة، ولا صوت يعلو على صوت الآلة العسكرية والبطش والقهر والقتل، حتى جاء صوت يهز الضمائر ويحكي بالوقائع ما لم تشهده الهولوكست ولم تصل إلى بشاعته كل الجرائم السياسية والعسكرية في العالم.

هذه المرة ارتفع «صوت هند رجب» بفيلم اخترق كل جدار بنته إسرائيل لتحجب عن عيون العالم الحقيقة وبشاعة إبادتها للعائلات والأبرياء في غزة؛ صوت هز ضمائر فنانين عالميين ونقاد وصناع سينما، وسيبقى علامة فارقة وعملاً يؤرخ واقعاً مريراً بعين سينمائية صادقة.
كثيرة هي الأفلام الدرامية التاريخية التي أنتجتها السينما العالمية لتسهم في تغذية الفكر المتطرف وكسب تعاطف العالم تحت ستار «الهولوكست» الذي تريد إسرائيل استغلاله باستمرار بحجة تعرض شعبها للاضطهاد، متجاهلة كل ما تفعله هي والذي تجاوز ببشاعته تلك المحرقة «الهتلرية»، فكل المجازر التي تحصل في غزة لا تدرجها تلك الدولة وحلفاؤها تحت مسمى «السامية» ولا العنصرية ولا الإبادة الجماعية التي ترتكب كل يوم في فلسطين، حيث وصل الوضع الإنساني والاجتماعي إلى الكارثي، وأصبحت غزة المنكوبة تعاني من مجاعة حقيقية.

مجزرة بشعة


«صوت هند رجب» فيلم سينمائي، غالباً ما تجد العالم اليوم يتوقف عنده ليس للتدقيق في تفاصيله الفنية، بقدر ما يعنيهم المضمون والرسالة الآتية إلينا جميعاً، أينما كنا ومن مختلف الجنسيات والانتماءات، الرسالة التي يحملها صوت تلك الطفلة ابنة الأعوام الستة التي كانت تستنجد بالمسعفين لإنقاذها وهي عالقة داخل سيارة ضمت مجموعة من أسرتها ومنهم أبناء وبنات عمومتها وخالتها، قتلوا برصاص الجيش الإسرائيلي ومازالت هي تجلس ترتعش شاهدة على تلك المجزرة البشعة. أصيبت هند وبقيت تتحدث إلى المسعفين تطلب منهم المجيء لأخذها، وهي تصف بنفسها كيف تقترب الدبابة الإسرائيلية من السيارة، حتى انقطع صوت هند وانقطعت أنفاسها، واستشهد أيضاً المسعفان اللذان جاءا لإنقاذها، ولم يتمكن أحد من الوصول إليهم وانتشال جثثهم إلا بعد مضي 12 يوماً على تلك الواقعة ومن آخر صدى لصوت هند رجب على هذه الأرض.
رسالة الفيلم هي رسالة هند التي قالتها بشكل غير مباشر، فتلك الطفلة سجلت بصوتها مشهداً حقيقياً وصفته بأدق وصف أفضل من أي مراسل وأي صحفي وأي ، منتهى الصدق الذي لا يمكن التشكيك فيه، ومنتهى الدقة في كلمات رسمت واقعاً مراً لا يمكن للعدو أن ينفيه أو يدعي بأنه مزيف؛ نقلت صورة شفافة عن كيفية اغتيال الأبرياء العزّل بشكل وحشي، ومواصلة إطلاق الرصاص بالعشرات بل بالمئات على نفس الهدف ونفس المكان للتأكد من عدم الإبقاء على أي إنسان ولا حتى طفل رضيع على قيد الحياة؛ هنا تكمن قيمة هذا الفيلم في توثيقه واقعة هزت الضمائر وأوجعت القلوب، لكنها لم تصل إلى كل العيون ولم يسمع عنها كل الناس، وبفضل السينما ووعي المخرجة التونسية كوثر بن هنية وجرأة عدد من نجوم «هوليوود» بانضمامهم إلى فريق الفيلم كمنتجين تنفيذيين، من بينهم خواكين فينيكس، وبراد بيت، وروني مارا، وألفونسو كوارون، وجوناثان جليزر، والممثلون سجا كيلاني، ومعتز محيلس، وعامر حليحل، وكلارا خوري.
لا يحتاج الفيلم لكثير من الإبهار السينمائي، فالقصة بحد ذاتها مبهرة وتملك من الدراما والتراجيديا والجريمة والأكشن والرعب ما يكفي لتقديم فيلم مكتمل الأركان ومكتفي برسائله الإنسانية التي تفوق كل الرسائل التي يمكن أن تفبركها الآلة الإعلامية الإسرائيلية للتشويش على الحقائق. أجادت المخرجة في تقديم لقطات متنوعة بين الكاميرا المحمولة والكاميرا المتحركة، لكن أكثر ما تأثر به كل من شاهده في المهرجانات التي شارك فيها، هو صوت هند، تلك الطفلة البريئة التي لمست القلوب وتركت صدى يتردد بعد انتهاء الفيلم ليطرح ألف سؤال في أذهان الناس، ويدفعهم للاعتراف بأعلى صوت أن ما يحصل في غزة هو أبشع جريمة إنسانية يشهدها العالم وستبقى محفورة وسيحكيها التاريخ لكل الأجيال القادمة.

تصفيق حار


فوز فيلم «صوت هند رجب» بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي، ليس مفاجئاً بل نتوقع له المزيد من الجوائز والمزيد من الأصداء التي تعني بالنسبة لأهل غزة، تحريك الضمائر وتحريض العالم على رفع الصوت عالياً لرفض كل ما يحدث هناك، وإيقاف الحرب ومنح أهل غزة حقهم في العيش بسلام، والتصفيق الحار الذي حظي به الفيلم لمدة 23 دقيقة متواصلة بعد عرضه الأول في المهرجان، كاسراً الرقم القياسي الذي حظي به فيلم «متاهة بان» 22 دقيقة في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2006، لا شك أنه أضاف إلى قائمة المتضامنين مع القضية الفلسطينية وتحديداً مع أهل غزة في مواجهتهم وتصديهم للآلة العسكرية والبطش وجرائم الجيش الإسرائيلي، أضاف أسماء جديدة من المتضامنين الداعين إلى نبذ العنف والقتل والدعوة إلى وقف الحرب في غزة.
كل ما أرادته الطفلة هند، أن تحظى بفرصة للعيش، أن يمد أحد يده لانتشالها من بين جثث أقربائها والخروج من تلك السيارة في إحدى الليالي الباردة من يناير/ كانون الثاني 2024، ولم تكن تعرف أن صوتها سيبقى حياً بعد رحيل جسدها، وسيتردد في كل مكان، وستأتي مخرجة مثل كوثر بن هنية المعروفة بتقديمها أفلاماً «استثنائية» مميزة، لتجعل من بطولتها وصمودها قصة، والقصة تحبكها بخيال سينمائي يليق بالواقعة والموقف الإنساني وببطلته الصغيرة.
ما الذي دفع بالنجوم الكبار مثل براد بيت، وخواكين فينيكس، إلى المشاركة مادياً كمنتجين في الفيلم؟ هو صوت هند، لأنه صوت الضمير، وصوت الإنسانية، وصوت الحق، وصوت البراءة والطفولة، وصوت الصراع من أجل البقاء، وصوت شعب وطغاة، وصوت الجريمة والحقيقة التي يحاول المجرم إخفاءها. هؤلاء آمنوا بتلك الحقيقة وتلك القضية من خلال ما عاشته هند، ومن خلال صوتها وخوفها ووجعها، ومن خلال شجاعة المسعفَين في القدوم إلى المكان في محاولة لإنقاذ هند فدفعا حياتهما ثمناً. الإيمان بالإنسانية وبحق كل إنسان في العيش لا يحتاج إلى هوية ولا لغة، بل إلى ضمير ومشاعر.
وكما قالت كيلاني إحدى بطلات الفيلم: «هذا الفيلم ليس رأياً أو خيالاً، بل هو واقع مُرسخ. قصة هند تحمل ثقل شعبٍ بأكمله. صوتها واحدٌ من بين عشرات آلاف الأطفال الذين قُتلوا في غزة خلال العامين الماضيين فقط. إنه صوت كل ابنة وكل ابن، له الحق في العيش والحلم والوجود بكرامة. ومع ذلك، سُلب كل ذلك أمام أعيننا التي لا ترف».
اختارت فيلم المخرجة كوثر بن هنية ليمثلها رسمياً في سباق جائزة أفضل فيلم دولي في حفل «الأوسكار» المقبل، وسبق لكوثر بن هنية أن خاضت تجارب سينمائية وصلت إلى ترشيحات في «الأوسكار» مثل فيلمها «أربع بنات»، و في عام 2021 تم ترشيح فيلمها «الرجل الذي باع جلده» ضمن فئة الأفلام الدولية.

[email protected]

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا