في زمن تتسارع فيه الحياة وتتزاحم فيه ناطحات السحاب والمراكز التجارية، تظل هناك أصوات تنادي بالعودة إلى الجذور، إلى الأرض التي شهدت قصص الأجداد وحكاياتهم. ومن بين تلك الأصوات تبرز رحاب الظنحاني، المغامِرة الإماراتية التي اختارت أن تخوض طريقاً مختلفاً، ليس فيه بريق الأضواء بقدر ما فيه مغامرة البحث عن الحقيقة بين الجبال والكهوف والوديان في الإمارات وخارجها. رحاب ليست مجرد هاوية للمغامرات، بل باحثة ميدانية توثق بذاكرتها وعدستها وصوتها تاريخاً ممتداً من الماضي إلى الحاضر، لتكون رسالتها مزدوجة بين عشق الطبيعة وحفظ التراث.تعود رحاب الظنحاني بذاكرتها إلى طفولتها، حين كانت تعيش بين أحياء الفرجان القديمة، حيث البساطة والعلاقات الإنسانية المتينة، تقول: «الإنسان يولد بالفطرة مغامراً ومستكشفاً، يحب التعرف على كل ما يحيط به، وينمو معه هذا الشغف عبر السنين».منذ تلك الأيام، بدأت تتشكل لديها ملامح شخصية مختلفة، فتاة لا تكتفي باللعب التقليدي، بل تبحث في زوايا المكان، تتأمل الأطلال وتستمع إلى قصص الكبار عن الأماكن التي مضى عليها الزمن. ومع مرور السنين، تحوّل الفضول الطفولي إلى شغف عميق، ثم إلى هوية وثقافة جعلت المغامرة بالنسبة لها ليست مجرد تسلية، بل ممارسة ثقافية ورياضية وسياحية. السند الأول تؤكد رحاب الظنحاني أن الأسرة كانت السند الأول في رحلتها، فهي التي شجعتها على خوض المغامرات ومنحتها الثقة لتواصل طريقها لم تكن العائلة وحدها الحاضنة، بل كان الأصدقاء أيضاً جزءاً من دائرة الدعم يشجعونها ويقاسمونها بعض تجاربها.أما الجهات الرسمية، فقد شكّلت المنبر الذي نقلت عبره ما جمعته من معلومات وصور توثيقية، وأسهمت في إبراز جهودها بين الناس. فريق «الوشق» للمغامرات لم تبقِ رحاب مغامراتها مجرد نشاط فردي، بل قررت أن تصقلها في إطار مؤسسي، فأطلقت فريق «الوشق» للمغامرات، الذي تقوده بنفسها، تصف طبيعة عملها قائلة: «نقوم بالبحث والاستكشاف والتوثيق والتعريف بالمعالم الطبيعية والتاريخية والمندثرة، وننقل قصص وروايات المكان عبر الزمن، باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كجسر للتعريف بما توثقه وتقدم محتوى يجمع بين التثقيف والمتعة البصرية». خبرة تصنعها التجربة تدرك رحاب الظنحاني أن مجال المغامرات ليس سهلاً، بل مملوء بالتحديات والمخاطر، لذلك خضعت لتدريبات متخصصة في الاستكشاف والبحث الميداني، وتؤمن بأن التطوير المستمر للذات أمر لابد منه.وتضيف رحاب الظنحاني: «هذا المجال لا يقوم على الأنا بل على نحن، فالمغامر الحقيقي هو من يجعل السلامة أولوية، ويتحلّى بالأخلاق، ويعمل على تثقيف الآخرين، والتجربة الميدانية هي المعلم الأكبر، وكل موقف صعب في رحلة هو درس جديد يضاف إلى رصيدي». العمل التطوعي لم تكتفِ رحاب الظنحاني بالبحث والاستكشاف، بل انخرطت في ميادين العمل التطوعي خصوصاً في مجالات الإسعافات الأولية والإنقاذ، إذ تمتلك رصيداً كبيراً من الساعات التطوعية، وتعتبر أن خدمة الوطن شرف عظيم لا يكافئه أي إنجاز شخصي، وتقول: «اللهم لك الحمد والشكر على نعمة خدمة هذا البلد الذي لن نوفيه حقه أبداً». التحديات وصعوبات الطبيعة على الرغم من الشغف، لم تخلُ الطريق من العقبات بين وعورة الجبال وغموض الكهوف وغياب المعلومات الدقيقة عن بعض المواقع، حيث وجدت رحاب الظنحاني نفسها أمام تحدياتٍ حقيقية.تضيف إلى ذلك ضعف الدعم المعنوي والمادي أحياناً، إضافة إلى ما تصفه ب«محبطات النجاح»، والمقصود بها بعض الأشخاص الذين يأخذون جهدها ومعلوماتها وينسبونها لأنفسهم دون حفظ حقوقها ورغم ذلك، تصرّ على أن تسميها «تحديات» لا «صعوبات»، لأنها كانت سبباً في زيادة عزيمتها وإصرارها. مغامرة علّمتها الصبر والإصرار من بين مئات الرحلات تظل قصة «الكهف المختفي» علامة فارقة في مسيرة رحاب الظنحاني تروي قائلة:«كنا ستة أشخاص متجهين إلى كهف معيّن، وعندما وصلنا إلى مدخله اختفى فجأة أمام أعيننا كانت لحظة صدمة، لم نصدّق ما حدث، بعضهم قال ربما وهم وآخرون أصروا على أن هناك سراً غامضاً».لم تستسلم، بل عادت مع فريقها في يوم آخر بعد بحث مكثف، وجمعوا المعلومات اللازمة حتى تمكنوا من دخول الكهف، ومن هذه التجربة خرجت بعدة قواعد، أهمها لا دخول لأي كهف قبل التحصين وجمع المعلومات، ولا مغامرة بلا استعداد نفسي وذهني.بعد هذه التجربة، ازدادت رغبتها في استكشاف الكهوف، فوثقت أكثر من 50 كهفاً في الإمارات، معتبرة أن هذه الأماكن لم تكن مجرد تضاريس طبيعية، بل مساكن للإنسان في الماضي وقصص تستحق أن تُروى. الإلهام للأجيال الجديدة اليوم، ترى رحاب أن رحلتها لم تكن فقط مغامرة شخصية، بل أصبحت مصدر إلهام للآخرين ولكثيرين ممن ساروا على خطاها، وبعضهم تدربوا على يديها، وأسسوا فرق مغامرات خاصة بهم، تعتبر ذلك من أعظم مكاسبها لأنه يعني أن ما بدأته لم يتوقف عندها بل استمر مع غيرها.تؤمن رحاب الظنحاني، بأن المغامرة ليست مجرد رحلة في الطبيعة، بل وسيلة لإحياء التراث الإماراتي، تقول: «الاستكشاف يساعد على التعريف بالمعالم التاريخية، خاصة في الأماكن التي لم يطلها العمران، والتي تروي لنا قصص حضارات قديمة كانت هنا يوماً ما».رحاب الظنحاني لا تتوقف عند حدود الحاضر حلمها القادم هو تحويل المعالم التاريخية والطبيعية إلى وجهات سياحية رسمية، بالتعاون مع الجهات المختصة، كما أنجزت كتاباً يضم أكثر من 500 معلم زارته ووثقته، وتأمل أن يتم اعتماده ونشره قريباً ليكون مرجعاً للأجيال القادمة. رحاب الظنحاني ليست فقط مغامِرة، بل حارسة لذاكرة المكان باحثة عن قصصه في الجبال والوديان والكهوف، بين الطفولة وأحلامها الأولى وبين الحاضر الذي تسير فيه بخطوات واثقة، صنعت لنفسها مسيرة استثنائية توازن بين المغامرة والتوثيق، وبين الشغف والمسؤولية.