أكثر من ثلاثين عاما قضيتها موظفا بوزارة الثقافة المصرية بعد حصولي على بكالوريوس المعهد العالي للسينما كأول دفعتي... لاأذكر موقعا آخر عملت فيه سوى (المركز القومي للسينما) ..الذي كان يمثل لكل جيلي قيمة كبرى لأنه -مع استثناءات قليلة- كان الجهة الوحيدة التي تتصدى لصنع الأفلام التسجيلية والقصيرة لكل القامات الإخراجية والِإبداعية التي كنا ننظر إليها بنوع من الاحترام والانبهار... شادي عبد السلام – خيري بشارة.. داوود عبد السيد – عبد المنعم عثمان .. ممدوح شكري .. علي بدرخان ثم محمد خان وعاطف الطيب وسمير عوف وهاشم النحاس ومعهم جيل كامل من كتاب السيناريو والمصورين ومهندسوا الديكور والموسيقيين وغيرهم معا يصعب حصره. مركز تولى قيادته اسماء عظيمة ساهمت في استمرار دوره الرائد في اكتشاف المواهب الحقيقية ... لم نكن نسمع وقتها عن رقابة متربصة أو قيودا إدارية معوقة أو انهيار مالي كا هو الوضع الآن حيث تحول إلى جهة حريصة فقط على توفير مرتبات لجحافل موظفيها الذين تضخم عددهم حتى اختلت معادلة المركز كمؤسسة إنتاجية إذ فاق عدد (الموظفين) أربع أضعاف عدد الفنانين وبالطبع انتهى الأمر بالمركز الذي كان ينتج عشرات الأفلام بين تسجيلي وروائي قصير ورسوم إلى انتاج هزيل لايسمع بها أحد وإلى تردي إداري وفني مهول لدرجة أن السيد الوزير ظل شهورا يبحث عن شخص بديل لرئيسه (الذي لا نعرف لماذا عين ولماذا أقيل)... فظل المركز حاليا من أي إدارة. ولما كنت أبحث عن التوثيق لحديثي .. فكرت في فتح موقع المركز القومي للسينما على محرك البحث جوجل وكما توقعت لم أجد سوى صفحات هزيلة منسوبة إلى جرائد ومجلات ثم اختفاء تام اكتفاء بأن إنتاج المركز سنة 2022 كان سبعة أفلام بين قصير وتسجيلي ... ثم حديث الرئيس الجديد للمركز الدكتور أحمد صالح (الذي لا نعرف شيئا عن خلفيته الثقافية أو السينمائية أو الإِدارية) الذي يدلي بتصريح لمجلة (القاهرة) التابعة لوزارة الثقافة والتي بالمناسبة كانت تؤدي دورا ممتازا وسط الخراب السائد حتى أتى من أطاح بإدارتها المحترمة وحولها إلى ما يشبه مجلات الحائط في المدارس الثانوية.. يقول السيد رئيس المركز أن اختياره لرئاسة المركز يحمله مسئولية كبيرة في ظل مساعي وزارة الثقافة بقيادة الدكتور أحمد هنو لدعم النشاط السينمائي (لا تعرف كيف ومتى؟) .. من خلال توفير منح إنتاجية (يعني إيه؟) وتشجيع الأفكار والمبادرات الجديدة (تشجيع إزاي ..مقالش طبعا).. وتعزيز الحضور الرقمي للمركز عبر توسيع التعاون مع المنصات الرقمية المحلية والإقليمية (لو حد فاهم يفهمنا) !!واستغلال البني التحتية الحالية لتحقيق أقصى استفادة منها وتطوير القدرات المهنية والإدارية كفرق العمل ..الخ وكلام لا علاقة له بخطة محددة ولا تصور عملي حتى يصل الرئيس الجديد للمركز الذي اختاره السيد الوزير بعد انتظار طويل إلى القول: "إن أي مبدع حقيقي سيجدنا في ظهره... ندعمه ونهيئ له المناخ ليقدم إبداعه) ثم يلقي في النهاية بالقنبلة التي تحدثنا عنها طوال المقالات السابقة حين يقول: أنه سيشدد على وجود خطط للحفاظ على الأرشيف السينمائي المصري والذي يعد بمثابة (هدف قومي) خاصة وأن تاريخ السينما المصرية يتجاوز 120 عاما.وبعد.. هذا نموذج مثالي للقيادات التي يمكن أن يختارها الدكتور هنو ...كلام في العموميات دون أي تصور عملي ... وحديث يبدو براقا لكنه يوضح أن ما وراءه ليس أي شئ سوى الفراغ... لا وعد بإنتاج ولا مزيد من التخفف من العبء الإداري الذي يثقل بالميزانيات ولا فهم محدد لقضية الأرشيف تتجاوز فهم الوزير الذي يعتقد أن الأرشيف ليس سوى (رصا)للأفلام وليس مشروعا قوميا حقيقيا يتضمن استعادة تراثنا الضائع وتهيئة مكان يصلح للدراسة وترميم كل الأفلام وتوحيد جهة ضبط التراث السينمائي... إلخ. هذه فقط حالة المركز القومي للسينما التي أعرفها جيدا بحكم خبرتي فيها أما أحوال المراكز والمؤسسات الأخرى التابعة للوزارة المحترمة فحدث ولا حرج (رغم أن أحدا لا يتحدث) ... عن أحوال الثقافة الجماهيرية وقطاع الفنون التشكيلية والمسرح والمتاحف والأوبرا وشركة السينما و... إلخ.هذه وزارة شديدة الأهمية يا من يهمكم أمر الوطن.. هل رسخ هذا التصور في اهتمام الدولة لتقوم باختيار وزير مناسب يعي الحقائق ويملك تصورا لأي خطة للنهوض بهذا العبء الكبير؟!