- على الرغم من مرور أكثر من قرنين من الزمان على ظهور أفكار توماس روبرت مالتوس؛ فإنها لا تزال تثير عاصفة من الجدل في أوساط رجال الاقتصاد، وعلماء الديموغرافيا، والنخب الفكرية المعنية بقضايا الفقر والسكان والتنمية.
- نسجت "المالتوسية" لوحة قاتمة لمستقبل البشرية، قوامها حتمية الانهيار الناجم عن التزايد المطرد في أعداد السكان، والتناقص الملحوظ في الموارد المتاحة.
- ومع أن مرور الزمن كان كفيلاً بتكذيب الكثير من تنبؤاته، فإن تأثير أفكاره لا يزال حاضرًا في السياسات والنقاشات الدائرة حتى يومنا هذا.
من النشأة إلى نبوءة السقوط
- وُلد توماس مالتوس عام 1766 في كنف عائلة إنجليزية ثرية ومثقفة. وكان والده صديقًا للفيلسوف الشهير ديفيد هيوم، وقد تأثر بأفكار جان جاك روسو الليبرالية، الأمر الذي انعكس على تربية ابنه وتعليمه المبكر في المنزل.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- وفي وقت لاحق، التحق مالتوس بكلية يسوع في جامعة كامبريدج العريقة، حيث أظهر نبوغًا ملحوظًا في دراسة اللغات الكلاسيكية، وتخرج عام 1788، ثم استأنف دراساته العليا ليحصل على درجة الماجستير عام 1791.
- وبعد سنوات قليلة، اختار سلوك طريق الكهنوت، لكن سرعان ما وجد نفسه منشغلًا بهمٍّ أكبر وأعمق، ألا وهو مستقبل البشرية جمعاء.
"مقال عن مبدأ السكان": حين يتحوّل العلم إلى نذير شؤم
- في عام 1798، نشر مالتوس كتابه الشهير "مقال عن مبدأ السكان"، دون أن يحمل توقيعه آنذاك؛ وقد طرح فيه نظريته التي أحدثت صدمة في الأوساط الفكرية، ومفادها أنه بينما ينمو عدد السكان وفق متوالية هندسية (2، 4، 8، 16...)، فإن الموارد تنمو وفق متوالية حسابية (2، 3، 4، 5...).
- وتبعًا لذلك، فإن البشرية محكومة حتمًا بالمجاعة، والفقر المدقع، والحروب الطاحنة، ما لم يتم وضع قيود صارمة على الزيادة السكانية.
- قسّم مالتوس "آليات التصحيح" إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الرذيلة (مثل الحروب والعلاقات غير الشرعية)، والبؤس (كالمجاعات والأوبئة الفتاكة)، والضبط الأخلاقي (كالتأخر في سن الزواج أو الامتناع التام عن الإنجاب).
- لقد كانت هذه النظرية بمثابة صدمة قوية للفكر المتفائل الذي ساد أواخر القرن الثامن عشر، ولا سيما بين أولئك الذين تبنوا أفكار "الكمال البشري" وعلى رأسهم الفيلسوف البارز ويليام جودوين.
نظرة تشاؤمية ألهمت وأخطأت الهدف في آن واحد
- على الرغم من طابع أفكار مالتوس السوداوي، فإنها لم تكن مجرد تأملات نظرية مجردة؛ فقد كان لها تأثير عميق على السياسات الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، حيث طالب بإلغاء قوانين الإعانات المقدمة للفقراء، معتبرًا أنها تشجع على الإنجاب غير المنضبط.
- كما دعا إلى إنشاء "دور عمل" تتسم بظروف غير مريحة، بل "قاسية"، بهدف الحد من الاعتماد المتزايد على الدولة.
- بيد أن نظريته عانت من نقاط ضعف جوهرية، أبرزها فشله في تقدير التطورات الهائلة التي طرأت على القطاعين الزراعي والصناعي، والتي أحدثت ثورة حقيقية في إنتاج الغذاء.
- علاوة على ذلك، فقد تجاهل تمامًا تأثير التعليم، وتمكين المرأة في المجتمع، وتوفر وسائل منع الحمل على تراجع معدلات الإنجاب في المجتمعات المتقدمة.
مالتوس الاقتصادي: من التشاؤم السكاني إلى مفاهيم جديدة في الطلب والادخار
- على الرغم من شهرته الواسعة بنظرية السكان، فقد قدم مالتوس إسهامات جليلة في مجال الفكر الاقتصادي. ففي كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي" (1820)، طرح مفهوم "الطلب الفعّال" باعتباره العنصر الحاسم في تحفيز عجلة الإنتاج.
- كما انتقد بشدة ما أسماه "تقديس الادخار"، معتبرًا أنه قد يؤدي إلى كساد اقتصادي شامل، ودعا إلى إيجاد توازن دقيق بين الادخار والاستهلاك.
- وبذلك، يكون مالتوس قد سبق في بعض أطروحاته الاقتصادية ما سيأتي به جون ماينارد كينز بعد أكثر من قرن من الزمان.
الجانب المظلم لإرث مالتوس
- من المفارقات العجيبة أن نظرية مالتوس – على الرغم من نبرتها المتشائمة – ألهمت علماء القرن التاسع عشر، ومنهم ألفريد راسل والاس.
- ولكن على الجانب الآخر، أدت هذه النظرية إلى تبنّي سياسات قاسية تحت ستار "الواقعية". فقد تم استخدامها لتبرير عمليات تعقيم قسرية للفقراء والأشخاص ذوي الإعاقة في الولايات المتحدة، حيث شهدت فترة العشرينيات من القرن الماضي عمليات تعقيم قسري لحوالي 70 ألف شخص، استنادًا إلى منطق يرى أن "الضعفاء" لا يستحقون التكاثر.
- كما ساهمت هذه الأفكار في تغذية سياسات تحسين النسل في أوروبا، والتي بلغت ذروتها المظلمة في الحقبة النازية.
المالتوسية الجديدة: من "القنبلة السكانية" إلى مرونة الإنسان المتجددة
- في ستينيات القرن العشرين، عادت "المالتوسية" في ثوب جديد، مع صدور كتاب "القنبلة السكانية" لبول إرليش عام 1968، والذي تنبأ بانهيار الحضارة الإنسانية نتيجة للتزايد السكاني الهائل.
- ألهم هذا الكتاب موجة من التشريعات والسياسات التي حاولت الحد من النمو السكاني في دول العالم الثالث.
- ولكن، مرة أخرى، خابت التوقعات؛ فمع الثورة الخضراء التي أحدثت طفرة في الإنتاج الزراعي، وارتفاع مستويات التعليم، وانتشار وسائل منع الحمل الحديثة، أثبت البشر قدرتهم الفائقة على التكيف مع الظروف المتغيرة.
- وأظهرت البيانات والإحصائيات أن الدول الأكثر أمنًا غذائيًا وتقدمًا اقتصاديًا تسجل أدنى معدلات الخصوبة، بينما تسجل الدول الأكثر فقرًا أعلى معدلات النمو السكاني، وهو ما يتعارض مع الفرضية المالتوسية بشكل جذري.
الدرس الأكبر: قدرة الإنسان على التكيّف تتجاوز التنبؤات المتشائمة
- لا شك أن مالتوس كان ابن عصره، ومفكرًا يتمتع برؤية نافذة، لكنه وقع في فخ الحتميات المطلقة، وأغفل القدرة الهائلة للإنسان على التغيير والتقدم.
- خلد التاريخ نظريته لا لكونها صحيحة بالضرورة، بل لأنها كانت بمثابة تحذير مبكر من خطر محتمل، حتى وإن بالغت في توصيفه.
- واليوم، ونحن نواجه تحديات عالمية معقدة مثل تغير المناخ، والهجرة الواسعة، والأمن الغذائي، يمكننا أن نتعلم من تجربة مالتوس درسًا أساسيًا؛ ألا وهو أن التفكير النقدي والاعتماد على الابتكار والإبداع أكثر فعّالية من الاستسلام لمخاوف قديمة تقود إلى تبنّي سياسات قاسية وغير إنسانية.
- فالبشر ليسوا مجرد أرقام جامدة في متواليات رياضية، بل هم كائنات قادرة على التعلم المستمر والتكيف الفعّال، وبناء مستقبل مشرق لا يخضع لنبوءات الماضي المتشائمة، بل يصنعه الأمل والعمل الجاد.
المصدر: الموسوعة البريطانية، مجلة العلوم الأمريكية
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.