- يُعد آلان جرينسبان أحد أبرز الشخصيات الاقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، فقد شغل منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لأكثر من ثمانية عشر عامًا (1987 – 2006)، ليصبح الأطول بقاءً في هذا المنصب خلال العصر الحديث. - قاد جرينسبان خلال تلك الفترة، دفة السياسة النقدية الأمريكية عبر أزمات مالية وتقلبات اقتصادية عاصفة، ارتبط اسمه بعدها بـ "الاعتدال الكبير"؛ وهي حقبة اتسمت بنمو اقتصادي مستقر وتضخم منخفض نسبيًا. بيد أن هذه الفترة انتهت لاحقًا بأزمة مالية اعتبرها البعض نتاجًا مباشرًا لسياساته. - وفيما يلي، نقدم قراءة شاملة لسيرة جرينسبان المهنية، وتأثيره العميق، والمثير للجدل، على الاقتصاديْن الأمريكي والعالمي. نشأة أكاديمية ومسيرة مهنية متعددة الأوجه - وُلد آلان جرينسبان في نيويورك عام 1926، وتلقى تعليمه الاقتصادي في جامعة نيويورك، وحصل على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. كما درس لفترة في جامعة كولومبيا تحت إشراف الاقتصادي الشهير آرثر بيرنز. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام - بدأ جرينسبان حياته المهنية في القطاع الخاص، حيث أسس شركة استشارات اقتصادية، اكتسب من خلالها خبرة كبيرة في تحليل الأسواق والصناعات. - أما أولى خطواته في المجال العام، فكانت في عام 1974، عندما عينه الرئيس جيرالد فورد رئيسًا لمجلس المستشارين الاقتصاديين. - لكن المنعطف الأهم في مسيرته جاء عام 1987، عندما عينه الرئيس رونالد ريجان رئيسًا لمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2006، بعد أن جرى إعادة تعيينه من جانب أربعة رؤساء أمريكيين متتالين. قيادة في أوقات الأزمات: من انهيار 1987 إلى طفرة التسعينيات - لم تمضِ سوى أسابيع قليلة على تولي جرينسبان منصبه حتى واجه أول اختبار حقيقي: انهيار سوق الأسهم الشهير في أكتوبر 1987. - اتخذ خطوات جريئة حينها، لخفض أسعار الفائدة والحد من انتشار الذعر في الأسواق، وهي خطوات اعتُبرت حاسمة في تجنب كساد محتمل. - وخلال التسعينيات، قاد جرينسبان السياسة النقدية في مرحلة اتسمت بنمو اقتصادي قوي، وانخفاض في معدلات البطالة والتضخم، مدعومة بتطورات تكنولوجية وطفرة في الإنتاجية. - وقد اشتهر جرينسبان بقدرته على بناء التوافق داخل اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، وصار يُنظر إليه كركيزة للاستقرار الاقتصادي. "خيار جرينسبان" وسياسة المال السهل: أسباب للنجاح... ومقدمات للأزمة - رغم الإشادة بقدرة جرينسبان على كبح جماح التضخم ودعم النمو، فإن سياساته النقدية أثارت الكثير من الجدل، خاصة في العقد الأول من الألفية الجديدة. - فقد عمد إلى خفض أسعار الفائدة عدة مرات، أبرزها بعد انهيار فقاعة الدوت كوم عام 2000، وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، لتصل إلى مستويات متدنية غير مسبوقة (حوالي 1%)، واستمرت عند هذا المستوى لعام كامل. - خلق هذا التوجه التوسعي، المعروف بسياسة "المال السهل"، ما بات يُعرف لاحقًا بـ "خيار جرينسبان"؛ وهي فكرة ضمنية مفادها أن الاحتياطي الفيدرالي سيتدخل دومًا لإنقاذ الأسواق عند أول إشارة للأزمة، مما شجع المستثمرين على خوض مخاطر مفرطة دون خشية الخسارة. - وكانت النتيجة، بحسب العديد من الخبراء، أن هذه السياسات ساهمت في تضخيم فقاعة سوق العقارات، وفي نهاية المطاف أدت إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008، رغم أن جرينسبان نفسه أنكر مسؤوليته المباشرة عنها. موقفه من التضخم: بين التشدد والمرونة - رغم أن جرينسبان عُرف في بداياته بـ "التشدد" ضد التضخم، حتى أنه دعا للعودة إلى معيار الذهب في مقال شهير عام 1967، فإن ممارساته الفعلية في الاحتياطي الفيدرالي اتسمت بالمرونة. فقد سمح بقدر من التضخم كوسيلة لتحفيز الاقتصاد، خصوصًا عند التهديدات بالركود. - وفي خطاب له عام 1998، أقر بأن "الاقتصاد الجديد" القائم على التكنولوجيا قد لا يكون عرضة للتضخم التقليدي، مما عكس تطورًا في نظرته إلى التغيرات الهيكلية في الأسواق. جرينسبان والمجتمع الأمريكي: جوائز وانتقادات - نال آلان جرينسبان وسام الحرية الرئاسي من الرئيس جورج دبليو بوش، وهو أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة. - كما حظي باحترام واسع بين أوساط المستثمرين والسياسيين خلال فترة ولايته، رغم الانتقادات المتزايدة في السنوات اللاحقة. - وفي عام 2004، دعا الأمريكيين إلى التفكير في الرهون العقارية ذات الفائدة المتغيرة، وهي دعوة أدت لاحقًا إلى أزمات حادة مع ارتفاع أسعار الفائدة، وتُعد اليوم من الأمثلة على السياسات التي ساهمت في هشاشة النظام المالي آنذاك. فترة ما بعد التقاعد - بعد تقاعده في عام 2006، أسس جرينسبان شركته الاستشارية "جرينسبان أسوشيتس"، ونشر مذكراته بعنوان (عصر الاضطراب)، التي قدم فيها رؤيته حول الاقتصاد العالمي وأدواره في السياسات الأمريكية. تقييم الإرث: هل كان جرينسبان عبقريًا أم مسؤولًا عن الانهيار؟ - يبقى تقييم فترة جرينسبان مسألة خلافية حتى اليوم؛ فهناك من يراه عبقريًا قاد الاقتصاد الأمريكي لعصر من الازدهار والاستقرار، وهناك من يحمله المسؤولية عن التمهيد لأعنف أزمة مالية منذ الكساد الكبير. - لكن ما يتفق عليه الجميع هو أن آلان جرينسبان شكّل ملامح السياسة النقدية الحديثة، وكان لاعبًا أساسيًا في تحويل البنك المركزي الأمريكي إلى قوة مركزية في الاقتصاد العالمي. - وبينما تستمر الأوساط الاقتصادية في تقييم إرثه، فإن تأثيره باقٍ في صميم النقاشات حول دور البنوك المركزية وحدود تدخلها في الأسواق. المصدر: إنفستوبيديا