- في عالم التكنولوجيا الذي لا يرحم، يقف "سناب شات" كمعادلة محيّرة؛ فهو عملاق يتربع على عرش التواصل الاجتماعي بقاعدة مستخدمين تتجاوز 450 مليون شخص نشط يوميًا، لكنه في الوقت ذاته قزمٌ مالي لم يعرف طعم الربح إلا في ربعين ماليين فقط طوال تاريخه الممتد لأكثر من عقد. - وخلف واجهة الشعبية الجارفة، يكمن نزيف مالي مستمر. فكيف سقط هذا المبتكر العبقري في فخ الخسارة؟ وأين يكمن الخلل في نموذجه الذي غيّر العالم؟ ثورة الشبح الأصفر: التمرد على الكمال المصطنع - لنعد بالزمن إلى عام 2011، حين كانت منصات التواصل الاجتماعي مسرحًا للكمال المصطنع. حينها، رسّخ فيسبوك وإنستجرام ثقافة الواجهة الرقمية المصقولة، حيث تلاشت العفوية تحت وطأة الفلاتر اللامتناهية والسعي المحموم لتوثيق حياة خالية من العيوب. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام - ومن قلب هذا المشهد المتخم بالزيف، انبثق سناب شات كصرخة تمرد على يد مؤسسيه إيفان شبيجل وبوبي ميرفي. - كانت رؤيتهما جريئة وبسيطة: تأسيس مساحة تحتفي باللحظات الحقيقية، والعابرة، وحتى الفوضوية، بعيدًا عن ضغط الأرشفة والظهور بصورة مثالية. - بعبارة أخرى، لم يأتِ سناب شات لتوثيق "أجمل لحظات حياتك"، بل لخلق قناة تواصل آنية وعفوية، سلاحها السري كان "فلسفة الزوال". - حرر مفهوم الرسائل التي تختفي بعد ثوانٍ المستخدمين من هاجس الماضي الرقمي، وجعل المشاركة أكثر جرأة وعفوية. - كانت دعوة صريحة لمشاركة "الحقيقة" لا "الصورة المثالية"، وهو ما فجّر شعبيته بين جيل الشباب المتعطش للأصالة. أسلحة غيّرت وجه الإنترنت - لم تكن الرسائل الزائلة سوى طلقة البداية في ثورة سناب شات، التي قدمت ابتكارات أصبحت اليوم من أساسيات العالم الرقمي، بعد أن استنسخها المنافسون بلا هوادة: - القصص (Stories): فكرة مشاركة لقطات يومية تختفي بعد 24 ساعة، والتي أصبحت اليوم خاصية أساسية في إنستجرام وفيسبوك وواتساب. - سلاسل سناب (Snapstreaks): تلك الاستراتيجية العبقرية التي حوّلت التواصل إلى عادة يومية، ورفعت معدلات التفاعل إلى مستويات غير مسبوقة. - فلاتر الواقع المعزز (AR Filters): كان سناب شات الرائد هو الذي حوّل الواقع المعزز من تقنية معقدة إلى لعبة إبداعية في متناول الجميع، من تيجان الزهور إلى وجوه الجراء المضحكة. - وبفضل هذه الأسلحة، تدفقت الإيرادات لتصل إلى 5.3 مليار دولار في 2024. لكن هذا النجاح كان يخفي لعنة على وشك الظهور. لعنة المبتكِر - تكمن جذور مأساة سناب شات في أن أفكاره كانت ثورية وجذابة أكثر من اللازم. لم تقف "ميتا" مكتوفة الأيدي وهي ترى هذا الصعود، بل انقضت على ميزة "القصص" واستنسختها في إنستجرام، مستغلةً قاعدة مستخدميها الأضخم ومواردها التي لا تنضب. - وفي لحظة، تآكلت الميزة التنافسية للشبح الأصفر، وتحولت ابتكاراته إلى سلع متاحة للجميع. وهكذا، وجد سناب شات نفسه وقد وقع في فخ عبقريته. معضلة الربحية: تفاعل خاطف لا يرضي المعلنين - هنا يكمن الصدع العميق في أساسات سناب شات المالية، فعلى عكس منصات التمرير اللامتناهي مثل تيك توك أو إنستجرام، صُمم سناب شات للتفاعلات الخاطفة والسريعة. - وبطبيعة الحال، يعني هذا النمط وقتًا أقل يقضيه المستخدم على التطبيق، وبالتالي فرصًا أقل لعرض الإعلانات التي تمثل شريان حياة المنصات الرقمية. تتحدث الأرقام بمرارة: - متوسط وقت الاستخدام الشهري: - تيك توك: 34 ساعة.- يوتيوب: 27 ساعة.- إنستجرام: 16 ساعة.- سناب شات: 3 ساعات و20 دقيقة فقط. - يجعل هذا التفاوت المعلنين مترددين، فهم يبحثون عن أقصى مدى لوصول رسائلهم. يُضاف إلى ذلك، استهداف شريحة المراهقين التي تمتلك تأثيرًا ثقافيًا هائلًا، لكن قوتها الشرائية لا تزال محدودة، مما يقلل من متوسط العائد لكل مستخدم. رهانات مكلفة وطوق نجاة محتمل - عمد سناب شات إلى ضخ المليارات في رهانات مكلفة، في رحلة بحثه عن مصدر دخل جديد، أبرزها نظارات (Spectacles) التي فشلت فشلاً ذريعًا، وكبّدت الشركة خسائر بقيمة 40 مليون دولار من المخزون غير المبيع. - وفي حين تستطيع "ميتا" تحمل خسائر بمليارات الدولارات في مغامرات مثل "الميتافيرس"، لا يمتلك سناب شات شبكة الأمان المالية هذه. - لكن في عزلة الكفاح، يومض ضوء في نهاية النفق؛ فقد فاجأت الشركة الجميع بتحقيق أرباح للمرة الثانية في تاريخها في الربع الأخير من عام 2024. - والأهم، هو النجاح الساحق لخدمة "Snapchat+"، التي جذبت 14 مليون مشترك في وقت قياسي. يمثل هذا التحول الاستراتيجي نحو الاشتراكات طوق نجاة محتملاً، ومصدر دخل أكثر استقرارًا من الإعلانات المتقلبة. الطريق إلى الأمام: معركة البقاء - لقد نجا سناب شات في ساحة قضت على الكثيرين، وأعاد تشكيل الإنترنت، وأجبر العمالقة على اللحاق به. لكن يبقى السؤال المصيري اليوم: هل سيتمكن الشبح الأصفر أخيرًا من الخروج من ظله، ليترجم ثورته الثقافية إلى إمبراطورية مالية مستدامة؟ أم سيظل اسمه محفورًا في التاريخ بوصفه المبتكر العبقري الذي غيّر وجه العالم، لكنه فشل في تأمين مكانه فيه؟ إن الزمن وحده كفيل بالإجابة. المصدر: ميرج سوسايتي، آب ساموراي