عندما تُفتح علبة كارتييه الحمراء الشهيرة، لا ينكشف بريق الألماس والذهب فحسب، بل تنكشف فصول من تاريخ يمتد لأكثر من 175 عامًا؛ قصة علامة تجارية عالمية بُنيت على الطموح والابتكار، وبروابط عائلية متينة. كارتييه ليست مجرد علامة تجارية رائدة في عالم الجواهر الفاخرة، بل اسم بارز، ورمز للرفاهية التي حازت على ثقة الملوك والمشاهير وأثرياء العالم. وهنا يُثار التساؤل: كيف تمكنت هذه الدار، التي بدأت من ورشة صغيرة في باريس، من الحفاظ على مكانتها المميزة، وما سر استراتيجيتها التي جعلتها تنمو بسرعة وتتجاوز قيمتها 12 مليار دولار؟ البداية: طموح صائغ في قلب باريس الثائرة بدأت قصة كارتييه عام 1847 على يد شاب طموح يُدعى لويس فرانسوا كارتييه، والذي وُلد في عائلة بسيطة تعمل في صناعة البارود، لكنه حلم بعالم آخر، عالم الفن والجمال. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام عمل صبيًا في ورشة صائغ باريسي، وفي سن السابعة والعشرين، اشترى ورشة معلمه بخطوة جريئة، ليبدأ رحلته الخاصة في عالم الصاغة. لم تكن البداية سهلة؛ فبعد عام واحد فقط من افتتاح متجره، اندلعت ثورة كبيرة في باريس أغرقت سوق الجواهر في الكساد، وكادت أن تودي بحلم كارتييه. لكنه، وبصبر وحكمة، تمكن من النجاة، وعندما استقرت الأوضاع في عهد نابليون الثالث، اتخذ كارتييه قراره المهم: نقل متجره إلى حي راقٍ بالقرب من القصر الملكي، حيث تتجول أرقى سيدات المجتمع. دستور النجاح: ثلاثية الجودة، والعلامة التجارية، والولاء في هذا الحي الجديد، كانت المنافسة قوية. فما الذي ميّز كارتييه عن الآخرين؟ لقد بنى استراتيجيته على ثلاث ركائز لا تزال قائمة حتى اليوم: 1- الجودة العالية: لم يقبل كارتييه بالتسويات؛ واستخدم أجود المواد وأمهر الحرفيين، فصنع قطعًا متميزة في دقتها وجمالها. 2- العلامة التجارية المميزة: أدرك كارتييه أن التميّز يكمن في التصميم؛ ولم يكتفِ بصناعة الجواهر، بل ابتكر تصاميم مثل سوار "الحب" وخاتم "ترينيتي"، التي تحولت من مجرد قطع حُليّ إلى رموز عالمية.3- خدمة العملاء الراقية: عامل كارتييه وابنه ألفريد كل من يدخل متجرهما بنفس القدر من الاحترام والترحاب، بغض النظر عن طبقته الاجتماعية. وقد حوّلت هذه اللباقة والخدمة الجيدة الزوار العابرين إلى عملاء أوفياء. نجحت هذه الاستراتيجية عندما دخلت الكونتيسة دي نيوويركيرك المتجر ذات يوم، لتصبح عميلته الدائمة، وتفتح له أبواب القصر الملكي، حيث لفتت جواهرها انتباه الأميرة ماتيلد بونابرت، ابنة أخت نابليون، التي أصبحت من أبرز رعاة الدار، ومنحت كارتييه أول براءة ملكية له، وهو من أعلى الأوسمة التي يمكن أن يحصل عليها صائغ في ذلك العصر. عهد الإخوة الثلاثة: بناء أركان العلامة العالمية إذا كان الأب قد وضع حجر الأساس، فإن أحفاده الثلاثة - لويس، وبيير، وجاك - هم من بنوا العلامة التجارية العالمية. امتلك الإخوة الثلاثة مزيجًا فريدًا من المهارات، لكن نقطة قوتهم الأساسية كانت الثقة والروابط الأخوية التي تجمعهم. فعملوا كفريق واحد، وأداروا فروعهم الثلاثة في باريس ولندن ونيويورك كأنها شركة واحدة، وهو ما منحهم ميزة تنافسية كبيرة. - لويس (باريس): العقل المبدع وروح التصميم. كان لويس هو المصمم الرئيسي، صاحب التصاميم التي أثرت صناعة الجواهر بشكل واضح. ومن إبداعاته ساعة "سانتوس" التي تُعد أول ساعة يد للرجال، وتصميم "النمر"، وحلقة "ترينيتي". -بيير (نيويورك): رجل الأعمال الذي توسع في السوق الأمريكي. فتح فرع نيويورك في صفقة لافتة، حيث قايض عقدًا من اللؤلؤ الطبيعي بقيمة مليون دولار مقابل مبنى الدار في الجادة الخامسة. وهو من باع ألماسة "الأمل"، وأثبت أن النجاح التجاري لا يقل أهمية عن التصميم. -جاك (لندن): خبير الأحجار الكريمة وصلة الوصل مع الشرق. مع أن جاك كان الأخ الأصغر والأكثر تواضعًا، إلا أنه كان خبيرًا بارزًا في الأحجار الكريمة. لم تضمن رحلاته إلى الهند وآسيا للدار إمدادات من أندر الجواهر فحسب، بل جلبت معها إلهامًا وتصميمات ذات طابع شرقي أثرت إبداعات أخيه لويس، وفتحت أسواقًا جديدة. كارتييه في القرن الحادي والعشرين: تجديد العلامة بعد وفاة الإخوة، انتقلت ملكية الدار خارج العائلة، وهي اليوم جزء من مجموعة "ريتشمونت" الفاخرة، لكن روح كارتييه الاستراتيجية ما زالت حاضرة. ففي مواجهة جائحة كورونا، وبينما كان العالم في حالة إغلاق، اتخذت كارتييه قرارًا استراتيجيًا مهمًا: استغلت فترة الإغلاق لتجديد متاجرها بالكامل. وعندما انتهت الأزمة، خرجت متاجر كارتييه بمظهر أكثر تطورًا. تزامن ذلك مع تركيز على العالم الرقمي، وتطوير تجارب تسوق حصرية عبر الإنترنت، ورفع الأسعار بشكل مدروس، مستفيدة من حقيقة أن جواهرها أصبحت أصولًا تحتفظ بقيمتها. واليوم، تخطو الدار نحو المستقبل بثقة، حيث تشارك في تأسيس أول منصة "بلوكتشين" للعلامات الفاخرة، وتلتزم بأهداف واضحة في مجال الاستدامة، وتواصل دعمها للفن والمرأة من خلال مبادراتها الخيرية العالمية. نمو متسارع بالأرقام - تُظهر الأرقام تزايدًا ملحوظًا في الأداء المالي لعلامة كارتييه ومجموعتها الأم ريشمونت خلال الفترة من 2016 إلى 2024. - قفزت قيمة علامة كارتييه التجارية من 7.8 مليار دولار في عام 2016 إلى 2.2 مليار دولار بحلول عام 2024، مما يعكس مكانتها المتنامية في سوق السلع الفاخرة. - وعلى الصعيد ذاته، شهدت مبيعات مجموعة ريشمونت ارتفاعًا كبيرًا، إذ بلغت 20.6 مليار دولار في عام 2024 مقارنة بـ 11.1 مليار دولار في عام 2016. - تزامن هذا النمو مع أداء قوي لسهم المجموعة في البورصة، حيث ارتفع متوسط سعره من 61.40 دولار في عام 2016 إلى أكثر من 135 دولارًا في عام 2025، وهو ما يؤكد ثقة المستثمرين في استراتيجيتها المالية. السنة 2016 2022 قيمة علامة كارتييه التجارية 7.8 مليار دولار 12.4 مليار دولار مبيعات مجموعة ريشمونت 11.1 مليار دولار 19.1 مليار دولار سهم مجموعة ريشمونت في البورصة 61.40 دولارًا 111.87 دولار (2021) أكثر من مجرد جواهر - لم تصبح كارتييه إمبراطورية عالمية بالصدفة؛ بل إن قصة نجاحها هي درس في الاستراتيجية، درس عن أهمية تحديد التحديات بوضوح، والجرأة على اتخاذ رهانات كبيرة، وفهم أن الثقة بين الشركاء هي أثمن من أي جوهرة. المصدر: كاسكيد.