- في عالم الاقتصاد الذي غالبًا ما تهيمن عليه النماذج الرياضية المعقدة والمصطلحات الجافة، يبرز اسم الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي كظاهرة فكرية فريدة من نوعها. - لم يكن بيكيتي مجرد باحث أكاديمي، بل نجم من نجوم عالم الفكر، لا سيما بعد إصداره كتابه المزلزل "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" عام 2013. - لم يصبح هذا العمل الضخم، حوالي 700 صفحة، من أكثر الكتب مبيعًا فحسب، بل ألقى حجرًا ثقيلًا في المياه الراكدة للنقاشات العالمية حول الرأسمالية، وتوزيع الثروة، ومستقبل الديمقراطية. - فمن هو هذا الرجل الذي استطاع أن يعيد قضية اللامساواة إلى صدارة الاهتمام العالمي؟ من هو توماس بيكيتي؟ النشأة والتكوين - وُلد توماس بيكيتي في 7 مايو 1971 في كليشي، إحدى ضواحي باريس، لأسرة ذات توجهات سياسية يسارية راديكالية. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام - تركت هذه الخلفية السياسية والفكرية بصماتها على مساره المهني لاحقًا، وإن كان قد ارتبط سياسيًا بالحزب الاشتراكي الفرنسي. - أظهر بيكيتي تفوقًا أكاديميًا لافتًا منذ صغره، فبعد اجتيازه امتحان البكالوريا، التحق بواحدة من أرقى المؤسسات التعليمية في فرنسا، وهي "المدرسة العليا للأساتذة"، التي تخرج فيها عام 1990 بدرجة الماجستير في الرياضيات. - لم يكتفِ بيكيتي بالرياضيات، بل وجد في الاقتصاد ضالته الفكرية. وفي عام 1993، وهو في الثانية والعشرين من عمره، نال درجة الدكتوراه في الاقتصاد من "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية" وبرنامج الدكتوراه الأوروبي المشترك مع "كلية لندن للاقتصاد". - وفي عام 2000، أصبح أستاذًا للاقتصاد، ثم انضم في عام 2007 إلى "مدرسة باريس للاقتصاد" التي كان أحد مؤسسيها ومديرها الأول. - وخلال هذه الفترة، لم يكن بيكيتي مجرد أكاديمي منعزل، بل كان باحثًا غزير الإنتاج، ساهم في تأليف العديد من الكتب والمقالات. قنبلة فكرية: "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" - جاءت شهرة بيكيتي العالمية الحقيقية مع نشر الترجمة الإنجليزية لكتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" في عام 2014. لقد أحدث الكتاب ضجة هائلة، وحوّل مؤلفه الذي كان شبه مغمور إلى شخصية فكرية عالمية. - يكمن سر نجاح الكتاب في قدرته على تقديم أطروحة جريئة، مدعومة بكم هائل من البيانات التاريخية التي تمتد لأكثر من 200 عام، وتغطي دولًا مثل الولايات المتحدة وأوروبا، وخاصة فرنسا. - الأطروحة الأساسية التي يقدمها بيكيتي هي وجود ما أسماه "التناقض المركزي للرأسمالية". ويُلخص هذا التناقض في معادلة بسيطة ولكنها عميقة: r>g تمثل r متوسط معدل العائد على رأس المال (الأرباح، الفوائد، الإيجارات، وغيرها من العوائد على الاستثمارات). يمثل g معدل النمو الاقتصادي (نمو الإنتاج والدخل القومي). - يرى بيكيتي أنه على المدى الطويل، يميل معدل العائد على رأس المال (r) إلى أن يكون أعلى من معدل النمو الاقتصادي (g). - والنتيجة الحتمية لذلك هي أن الثروة الموروثة تنمو بوتيرة أسرع من الثروة المكتسبة عن طريق العمل والإنتاج. - هذا الأمر، إذا تُرك دون رادع، سيؤدي إلى مستويات متصاعدة وغير مستدامة من اللامساواة الاقتصادية، حيث تتركز الثروة بشكل متزايد في أيدي قلة قليلة. - تهدد هذه الديناميكية، بحسب بيكيتي، بتقويض أسس المجتمعات الديمقراطية القائمة على الجدارة، وتُعيدنا إلى ما أسماه "الرأسمالية الوراثية" التي سادت في القرن التاسع عشر، والتي صورتها ببراعة روايات جين أوستن وأونوريه دي بلزاك، حيث كان الطريق الأمثل للثراء هو الميراث أو الزواج، وليس العمل الجاد. - ويجادل بيكيتي بأن الفترات التي شهدت انخفاضًا في اللامساواة في القرن العشرين لم تكن نتيجة طبيعية لتطور الرأسمالية، بل كانت استثناءً تاريخيًا نتج عن صدمات عنيفة مثل الحربين العالميتين والكساد الكبير، التي دمرت كميات هائلة من رأس المال المتراكم. وصفة بيكيتي لعلاج اللامساواة - لا يكتفي بيكيتي بالتشخيص، بل يقدم وصفة علاجية جريئة، وإن كانت مثيرة للجدل. يكمن الحل الذي يقترحه لمواجهة أزمة اللامساواة في السياسات الضريبية، ودعوته الأكثر طموحًا هي فرض ضريبة عالمية تصاعدية سنوية على الثروة، قد تصل إلى 2% على الثروات التي تتجاوز 6.6 مليون دولار. - ورغم إقراره بأن تحقيق مثل هذه الضريبة العالمية هو هدف "طوباوي" (حالم بالوصول إلى المثالية) في ظل غياب التنسيق السياسي الدولي، فإنه يقترح بدائل إقليمية أو وطنية. - بالإضافة إلى ذلك، يوصي بفرض ضرائب مرتفعة جدًا على الدخل، تصل إلى 80% على الدخول التي تتجاوز 500 ألف دولار (أو مليون دولار)، وضريبة بنسبة 50-60% على الدخول التي تزيد عن 200 ألف دولار. - اللافت في اقتراحه هو أن الهدف من هذه الضرائب المرتفعة ليس جمع الإيرادات للدولة بالدرجة الأولى، بل القضاء على مثل هذه الدخول الفاحشة التي يراها غير مفيدة اجتماعيًا وتساهم في تفاقم التفاوت. الجدل والنقد: "فاينانشال تايمز" تشكك في البيانات - لم تكن أطروحات بيكيتي لتمر مرور الكرام دون تدقيق. في مايو 2014، نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية تحقيقًا أثار عاصفة من الجدل، حيث زعم وجود تناقضات بين البيانات التي استخدمها بيكيتي والمصادر الرسمية. - واتهمت الصحيفة بيكيتي بأنه قام في بعض الحالات بتعديل البيانات الأصلية، وأن بعضها بدا وكأنه مُصطنع أو منتقى بعناية لدعم استنتاجاته. - والأهم من ذلك، أن الصحيفة ادعت أنه عند تصحيح هذه الأخطاء، فإن البيانات لم تعد تدعم أطروحة بيكيتي المركزية حول تزايد اللامساواة في الثروة. - رد بيكيتي على هذه الاتهامات برد مطول دافع فيه عن منهجيته وكتابه، لكنه أقر في الوقت نفسه بأن "مصادر البيانات المتاحة حول عدم المساواة في الثروة أقل منهجية بكثير من تلك المتوفرة لديهم حول عدم المساواة في الدخل". ورغم هذا الجدل، فإن تأثير الكتاب لم يتضاءل، بل ربما زاد من شهرته. الإرث والتأثير: كيف غيّر بيكيتي المشهد الاقتصادي؟ - بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع استنتاجات بيكيتي أو حلوله المقترحة، فإنه لا يمكن إنكار أنه نجح في تحقيق ما فشل فيه الكثيرون: لقد أعاد قضية اللامساواة الاقتصادية إلى قلب النقاش العام والسياسي والأكاديمي. - أصبح بيكيتي شخصية رائدة في مجال اقتصاديات اللامساواة، وساهم عمله في تشكيل طريقة تفكير الاقتصاديين حول هذه القضية. - كما كان لأفكاره تأثير ملموس في مجال السياسات العامة، حيث استُخدمت لتبرير التدخل الحكومي في الاقتصاد، مثل الدعوات لفرض ضرائب على الثروة وزيادة الضرائب على الأثرياء في العديد من دول العالم. - واصل بيكيتي تطوير أفكاره في أعمال لاحقة، مثل كتاب "رأس المال والأيديولوجيا" (2020)، الذي يستكشف تاريخ اللامساواة والتبريرات الأيديولوجية المختلفة التي قُدمت لها عبر العصور. - وكتابه الأكثر إيجازًا "تاريخ موجز للمساواة" (2021)، الذي يتتبع مسيرة البشرية نحو تحقيق قدر أكبر من المساواة. - في الختام، يمكن القول إن توماس بيكيتي ليس مجرد اقتصادي، بل هو مفكر استطاع أن يطرح الأسئلة الكبرى حول عدالة النظام الاقتصادي الحالي ومستقبله. - لقد أجبرنا جميعًا، من صنّاع السياسات إلى المواطنين العاديين، على التفكير بعمق في الفجوة المتزايدة بين من يملكون ومن لا يملكون، وما إذا كان المسار الحالي الذي تسير فيه الرأسمالية العالمية قابلًا للاستدامة على المدى الطويل. المصدر: الموسوعة البريطانية