ديريك تومسون *
هل دونالد ترامب رأسمالي متشدد؟ أم اشتراكي متساهل؟ أم خليط غريب لا ينتمي إلى أي مدرسة اقتصادية معروفة؟ السؤال يبدو بديهياً، لكن الجواب يصعب الجزم به، كونه يتغيّر من يوم إلى آخر.
فمن جهة، أطلق ترامب مبادرات أقرب ما تكون إلى عقيدة رونالد ريغان، من خفض لضرائب الشركات، إلى تحرير لقطاع النفط والغاز من القيود التنظيمية. ومن جهة أخرى، اتخذ خطوات تبدو وكأنها مقتبسة من أجندة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، مثل المطالبة بحصة عامة في شركة «إنتل»، وبنسبة 15% من عائدات مبيعات «إنفيديا» للصين، والحصول على «سهم ذهبي» في «يو إس ستيل» يمنحه حق النقض على قراراتها.
وبين هذا وذاك، نجد مزيجاً عجيباً من الحمائية التجارية القديمة، ونزعة سلطوية أقرب إلى أنظمة العالم النامي، ممزوجة بخطاب شعبوي رقمي يلهب الأجواء أكثر مما ينظمها.
اليوم، ارتفعت التعرفة الجمركية الأمريكية إلى أعلى مستوى لها منذ قرن. وعندما لا يكون ترامب منشغلاً بإقالة خبراء الإحصاء الذين يحسبون معدلات البطالة، فإنه يوجّه سهامه نحو البنك المركزي المستقل، أو ينشغل بتغريدات مثيرة حول تصميم شعارات الشركات وكأنها قضية وجودية.
باختصار، يمكن القول إن أجندة ترامب الاقتصادية هي مزيج من المتناقضات، «ريغانية» إلى حد كبير ومعادية للمحافظين بشدة، «رأسمالية» حيناً و«اشتراكية» حيناً آخر، مهووسة بإعلان «عظمة أمريكا» لكنها كثيراً ما تضيع في معارك جانبية لا تضيف للاقتصاد سوى المزيد من الضباب.
وصف بعض المراقبين اقتصاد ترامب، أو ما يعرف مجازاً ب «الترامبونوميكس» بأنه نوع من «رأسمالية الدولة بصبغة أمريكية»، أي النظام الذي تمزج فيه الحكومة بين أدوات الاشتراكية والرأسمالية لتوجيه الشركات الخاصة. تاريخياً، لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن هذا النموذج، إذ تدخلت مراراً لا سيما في حالات الطوارئ، من قانون الإنتاج الدفاعي خلال الحرب العالمية الثانية، إلى إنقاذ البنوك في الأزمة المالية عام 2008، وصولاً إلى برامج الدعم خلال جائحة «كوفيد-19».
ووفقاً لأحد التفسيرات، فإن «ترامبونوميكس» لا يبرز في التاريخ، إنه مجرد أحدث مثال على قيام الحكومة الفيدرالية بدور أكثر نشاطاً في توجيه الاقتصاد، في محاولة لمنافسة الصين.
لكن ما يميز الصين، التي طوّرت اقتصادها تحت شعار «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، هو الانضباط والتخطيط بعيد المدى. فبكين تُدار كدولة هندسية، حيث تنبع سيطرتها على الاقتصاد من التخطيط طويل الأجل وتشع إلى الخارج عبر ملايين المسؤولين المحليين. أما ترامب، فأسلوبه يقوم على الارتجال أكثر من التخطيط.
خذ مثال الرسوم الجمركية التي يفترض أنها ستنعش قطاع التصنيع الأمريكي وتدعم الصادرات. لكن هذا لم يحدث، فالإنتاج الصناعي يتراجع باستمرار، والشركات نفسها تعلن أن الرسوم تعيق عملها. والأكثر إرباكاً، أن ترامب يفرض في الوقت نفسه ضرائب على الواردات وعلى الصادرات، وهو ما لا ينسجم مع أي نظرية اقتصادية متماسكة. ومع انزلاق الاقتصاد نحو الركود التضخمي، لا يُطبّق البيت الأبيض «رأسمالية الدولة» بقدر ما يُطبّق سياسة «الدوس على المشط»، وهي خطوة مرتبكة تنتهي بصفعة مؤلمة، من دون مكسب حقيقي.
الإشكالية الأعمق أن «اقتصاد ترامب» لا يقوم على رؤية اقتصادية بقدر ما يعكس شخصية الرئيس نفسه، الذي لا يملك نظرية واضحة للنمو أو للإنتاجية، بل رغبة مستمرة في السيطرة على كل شيء، من الجامعات إلى الأسواق العالمية.
إذن، يُمكن فهم «اقتصاد ترامب» على أنه صيغة تتألف من ثلاثة عناصر رئيسية. الأول هو إعلان حالة الطوارئ لتبرير التدخل، والثاني يتمثل في إطلاق التهديدات لإجبار الآخرين على الرضوخ، والعنصر الثالث هو المطالبة بالتسوية مقابل رفع التهديد.
هكذا عاقب ترامب شبكة «ABC» على تغطيتها السلبية بتهديد سحب رخصتها، قبل أن يقبل تسوية مالية من «ديزني» المالكة لها. وهكذا جمّد أموال أبحاث «جامعة كولومبيا» إلى أن دفعت ثمناً باهظاً وعدّلت سياساتها. ولمعاقبة عدد من شركات المحاماة على رفعها دعاوى قضائية ضده أو ضد حلفائه، هدد بحرمانها من عقود حكومية، لتضطر إلى تقديم مئات ملايين الدولارات من الخدمات القانونية المجانية.
وعلى الصعيد الدولي، كرر ترامب الأسلوب ذاته، فبعد أن هدّد اليابان والاتحاد الأوروبي برسوم جديدة على صادراتها، التزمت طوكيو وبروكسل باستثمارات تفوق تريليون دولار داخل الولايات المتحدة. حتى مع «إنتل»، مارس ضغوطاً مباشرة على رئيسها التنفيذي للاستقالة، ليخرج في النهاية بحصة حكومية تبلغ 10% في الشركة.
وباستثناء العداء للتجارة والحماس للرسوم الجمركية، لا يحمل اقتصاد ترامب، أو «ترامبونومكس»، أيديولوجيا متماسكة. إنه أشبه باستراتيجية شخصية هدفها إخضاع الخصوم وانتزاع تنازلات منهم. وليست الرسوم، أو التهديدات، أو الإهانات، سوى أدوات في مسرح واحد: «صناعة الألم ثم فرض تسوية مالية مقابل رفعه». وبهذا المعنى، فإن ما يقدمه ترامب ليس «رأسمالية الدولة» ولا «رأسمالية السوق الحرة»، بل هو اقتصاد قائم على خطوات مرتجلة ونتائج عكسية، حيث يتراجع النمو وتضعف القوة الاقتصادية، مقابل حضور رجل واحد في المشهد، ولو على حساب استقرار أمريكا نفسها.
* كاتب مساهم في مجلة «ذا أتلانتك»
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.