محمد جمعة المشرخ*
حين نُعيد النظر في المفهوم التقليدي للاستثمار، يتّضح أن التركيز على المؤشرات الكمية وحدها لم يعد يعكس الصورة الكاملة، فالأرقام المرتفعة والصفقات الكبرى، رغم أهميتها، لا تعبّر بمفردها عن جدوى الاستثمار أو عن أثره الفعلي في بنية المجتمعات، ما لم ترتبط بتحولات ملموسة في فرص العمل، وجودة الحياة، وتمكين الأفراد من أدوات الإنتاج المعرفي والتقني.
لقد هيمنت الرؤية المالية المحضة على تقييم الاستثمار لعقود، غير أن الأزمات المتتالية، البيئية والاقتصادية والاجتماعية، أثبتت قصور هذا النموذج، فالاستثمار الذي يكتفي بتحقيق العائد لا يضمن الاستدامة، في حين أن الاستثمار الجيد هو الذي يُبنى على قاعدة مزدوجة، مكونة من الكفاءة الاقتصادية والجدوى الاجتماعية. وعليه، فإن قياس النجاح يتطلب أدوات تقييم جديدة، تشمل مؤشرات مثل الأثر المجتمعي، والمساهمة في تمكين الفئات الشابة، وتعزيز قدرات الاقتصاد المحلي على التكيف مع التحولات العالمية.
من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف محددات البيئة الجاذبة للاستثمار، بحيث لا تنحصر في البنية المالية ومعدلات النمو والفرص فحسب، بل تشمل أيضاً عناصر القوة المعرفية ورأس المال البشري، باعتبارها المحرك الحقيقي للتوجه نحو الاستثمار المسؤول والمستدام. وهنا لا بد من التأكيد على أن الاستدامة لا تتعارض مع العائد، بل نشهد اليوم تحولاً عالمياً متزايداً نحو دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية في القرارات الاستثمارية.
لذلك، تتجه الاقتصادات المتقدمة والناشئة على السواء إلى اعتبار رأس المال البشري والقدرة الابتكارية عناصر جذب استثمارية مركزية، فالبنى التحتية الذكية، والمناهج التعليمية المحفّزة على التفكير النقدي، والأنظمة القانونية المرنة، تشكّل في مجموعها البيئة التي تعيد توصيف الاستثمار، وتحوّل رأس المال إلى محرك تنمية متواصل.
في هذا السياق، تمثل تجربة الشارقة نموذجاً متقدماً لاستراتيجية استثمارية تضع الإنسان في صلب القرار الاقتصادي، فبفضل توجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، اعتمدت الإمارة منهجاً تكاملياً يبدأ من التعليم والثقافة، ويمتد إلى دعم ريادة الأعمال، وتنمية القطاعات الإبداعية، وتوطين الصناعات المستدامة. لقد أصبحت البنية الاقتصادية في الشارقة مرآة لفلسفة استثمارية ترى في كل مشروع فرصة لتحسين جودة الحياة، وليس فقط فرصة لزيادة الناتج المحلي.
ومع استعدادنا لإطلاق الدورة الثامنة من «منتدى الشارقة للاستثمار 2025»، تحت أجندة موحّدة تجمعه مع «مؤتمر الاستثمار العالمي»، الذي تستضيفه الإمارة للمرة الأولى، فإننا نعيد طرح سؤال جوهري: ما الذي يجعل الاستثمار مجدياً في هذا الزمن؟ والإجابة هنا تتعزز بالمزيد من التوافق العالمي، وأدوات تحليل جديدة، ونماذج شراكة تربط القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، ضمن إطار يحفز الابتكار، ويراعي العدالة، ويستثمر في بناء مرونة الاقتصاد المحلي أمام التحديات العالمية، وهذه العناصر هي الإطار العام لأجندة المنتدى.
من خلال هذا المنتدى، ندعو إلى إعادة تعريف الاستثمار بصفته أداة لتمكين المجتمعات من أدوات النهضة الاقتصادية، التي تدعم النهضة الحضارية بكل مكوناتها من علوم وثقافة وصحة وخدمات وعلاقات اجتماعية. هذا هو الاستثمار الذي يتجاوز الأرقام، ليصبح أداة استراتيجية لإعادة بناء التوازن بين السوق والإنسان، وهذه هي المعادلة التي نؤمن بها في الشارقة، ونطمح من خلال المنتدى أن تسهم في تشكيل الأساس للنموذج العالمي القادم.
* المدير التنفيذي لمكتب الشارقة للاستثمار الأجنبي المباشر «استثمر في الشارقة»
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.