اقتصاد / صحيفة الخليج

من العولمة إلى القومية الاقتصادية

د. محمد الصياد *

مصطلح العولمة ظهر بعد مصطلح الخصخصة بنحو 10 سنوات، الثاني الذي ظهر في ثمانينات القرن الماضي في ثوب «التاتشريزم» (نسبة إلى مارغريت تاتشر رئيسة وزراء التي فرضت هذا النهج الاقتصادي بالقوة في بلادها)، و«الريغانوميكس» (نسبة إلى الرئيس الراحل أيضاً، رونالد ريغان)، فرش الأرضية للأول الذي ظهر في تسعينات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، التي ترافقت مع ثورة عالمية عارمة في مجال المعلوماتية والاتصالات.
اليوم يبدو العالم على شفا حقبة اقتصادية عالمية جديدة عنوانها الأبرز «القومية الاقتصادية»
(Economic nationalism)، التي ستضع حداً لربع قرن من الحياة الاقتصادية الدولية المعولمة وهو نوع من التدويل الاقتصادي العالمي العميق «Deep economic internationalization»، الذي يشير إلى مدى زيادة شركة أو اقتصاد ما لالتزاماتهما المالية والتشغيلية والتزاماتهما المتعلقة بالموارد تجاه الأسواق الدولية، بما يتخطى التجارة التقليدية، ليشمل استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة وسلاسل توريد عالمية معقدة وشبكات واسعة عابرة للحدود الوطنية ويُقاس ذلك بمؤشرات مثل نسبة المبيعات والأصول الأجنبية وعدد المرافق الخارجية ومدى التكامل في أنشطة الإنتاج والخدمات الأجنبية. العولمة نقلت كل هذا إلى مستوى آخر أزاحت فيه الفارق، تقريباً، بين الوطني والعالمي.
في المشهد العام أمامنا اليوم صورة للنظام الاقتصادي الليبرالي الدولي وهو يرتد إلى الداخل ويضمحل خارجياً، باستخدام الأدوات الاقتصادية العتيقة، مثل الحمائية التي باتت تتسيد السياسات الاقتصادية بشكل متزايد بمسوغات الأمن القومي، حيث تتقاطع فيها السياسة الصناعية بشكل متزايد مع استراتيجية الأمن القومي، بحيث أصبح واضحاً للعيان أن القومية الاقتصادية الجديدة تقوم الآن بإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، إنها انعطافة حادة في المستقر من علاقات الدول الاقتصادية بعضها ببعض.. مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية، واضطراب سلاسل التوريد والتطاحن التكنولوجي، في انحراف غير مسبوق عن عقود من السياسات الاقتصادية القائمة على انفتاح الأسواق التي سادت معظم فترة ما بعد الحرب الباردة، السياسات الصناعية، كما هي تمظهراتها الآن، تتشكل بناءً على مخاوف الأمن القومي. وإذ تُطبِّق القوى الاقتصادية الثلاث لكبرى: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، نُهُجاً مُختلفة لهذه السياسات الصناعية، فإنها تسعى لتحقيق أهداف مُتشابهة، مثل السيادة والهيمنة التكنولوجية والازدهار الاقتصادي الوطني، في حين تبنّت أمريكا موقفاً مُتشدداً باتباع سياسات تجارية حمائية متطرفة ودعم حكومي، سعت إلى تحقيق نمو طموح في مجموعة من القطاعات من خلال تخطيط طويل الأجل وسيطرة حكومية قوية مبنية أكثر على تثوير الطلب المحلي، وإحكام سيطرتها على صادراتها من المعادن الأرضية النادرة ومكونات تكنولوجيا النانو وأشباه الموصلات، أما الاتحاد الأوروبي فقد تاه وسط هذا الموج المتلاطم بين أمريكا والصين، وبدا حائراً بين الاستقلالية والانفتاح التجاري وغارقاً في انشغالاته اليومية بالحرب الهجينة التي يشنها ضد روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا.
لوهلة قد تبدو هذه السياسات الاقتصادية القومية، ناجحة حتى الآن في تعزيز الاقتصادات المحلية، إلا أنها تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي بشكل جماعي، بطرق تُضرّ بالدول الأخرى، وخاصةً بدول الجنوب والشرق الأقل إمكانيات للتكيف مع هذه التحولات الصادمة والتي ستجد نفسها مدفوعة -اضطراراً- لإعادة تشكيل علاقاتها الاستراتيجية مع القوى العالمية، صعود الصين صناعياً وتكنولوجياً، يوفر لهذه الدول فسحة من الأمل في نسق إنمائي جديد فيما بينها، قد يغير مسار الترتيبات الاقتصادية القائمة بين الشمال والجنوب. وبموجب هذه التحولات العولمية الارتدادية، سوف يتحول المصدرون الألمان والمصدرون الصينيون لأسواق جديدة لمنتجاتهم، بينما سيواجه المصنعون الأمريكيون صعوبة في استبدال الموردين الأجانب. في هذه الفترة الانتقالية نحو القومية الاقتصادية، ستتفاوت قدرات الشركات في التجمعات الثلاثة الكبرى: أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي، على التكيف مع الأوضاع الاقتصادية العالمية المستجدة وقد تكون الشركات الأوروبية والصينية في وضع أفضل نسبياً من نظيراتها الأمريكية التي سيتعين عليها التكيف مع سياسات الجدار الجمركي التي سيتم تكلفتها، بالضرورة، على المستهلكين الأمريكيين، من خلال ارتفاع الأسعار وعلى العمال والشركات وأصحاب المنازل الأمريكيين، من خلال ارتفاع أسعار الفائدة. سوف يكون لسلاح العقوبات الاقتصادية مفعول مضاد في هذه الحالة، إنما لن يكون هذا مضموناً على المدى المتوسط، في حال تخلخلت وتحركت «الصفائح التكتونية» الاقتصادية إلى حد لن يعود عدد متزايد من الدول يأبه ب«كونترولها».
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا