كتب - إسلام سعيدالسبت، 01 نوفمبر 2025 02:56 م شهدت مصر عام 2006 حدث استثنائي خاص يؤكد للعالم أن العبقرية المصرية دائما تتغلب على التحديات، ففي صبيحة يوم من أيام عام 2006، توقفت أنفاس العالم أجمع وهم يتابعون عملية نقل تمثال رمسيس من وسط القاهرة إلى المتحف المصري الكبير. ورغم عدد لا يحصى من التحديات الهندسية، نجحت مصر في تقديم موكب ملكي أعاد إلى الأذهان أمجاد الحضارة الفرعونية من خلال عملية معقدة لنقل تمثال الملك رمسيس الثاني، الذي يزن 83 طنًا ويبلغ ارتفاعه 11 مترًا. نقل تمثال رمسيس إلى المتحف المصرى الكبير غادر التمثال ميدان رمسيس بوسط القاهرة إلى مقره الجديد أمام المتحف المصري الكبير بالهرم، ليس ممددا أو مفككا إلى أجزاء كما كان أفكار عدد من الشركات والخبراء الأجانب، بل واقفا بشموخ في واحدة من أجرأ العمليات الهندسية وأكثرها تعقيدًا في التاريخ الحديث. وفي قلب هذا الإنجاز، يقف رجل مصري، الدكتور أحمد محمد حسين، المهندس الذي حول ما بدا مستحيلا إلى حقيقة مبهرة مستعينا بعدد من زملاءه المصريين وشركة المقاولون العرب بجانب سائق مصري بدلا من ألماني ليسطر الجميع ملحمة التف حولها الشعب المصري لساعات طويلة حتى تم نقل التمثال العظيم. فكرة نقل التمثال ورغم أن فكرة نقل التمثال بدأت عام 2004، حين قررت الحكومة المصرية نقل تمثال رمسيس الثاني من ميدان يحمل اسمه بوسط القاهرة، خوفا عليه من التلوث واهتزازات القطارات والسيارات على سلامته، إلا أن التنفيذ تأخر حتى عام 2006. وكلفت الحكومة، شركة المقاولون العرب بالمهمة، وبدأت في استقبال عروض الشركات المحلية والدولية، كانت الخيارات المطروحة تقليدية -رغم كونها مرسلة من شركات أجنبية عملاقة لها باع طويل في المجال- إما تفكيك التمثال إلى أجزاء ونقله ثم إعادة تركيبه، أو نقله ممددا على شاحنة عملاقة. هذه الخيارات لم تلق قبولا عند الدكتور أحمد حسين، أستاذ الهندسة بجامعة عين شمس، الذي تم استدعاءه لتقييم المخاطر، وابداء الرأي الفني في عملية نقل التمثال، ليفاجئ الجميع ويقول كلمته الشهيرة "هنقل التمثال واقفًا". وقدم المهندس أحمد حسين اقتراح بنقل تمثال رمسيس واقفا، رغم أن الفكرة فيها تحدي لقوانين الفيزياء وأن الفكرة غير منطقية للوهلة الأولى وغير قابلة للتطبيق، فكيف يمكن لتمثال بهذا الحجم والوزن أن يتحرك واقفًا دون أن يسقط أو يتحطم؟. ونجح المهندس المصري في تصميم نموذج تجريبي يوضح مبدأ التوازن الديناميكي، وأعلن بثقة: "الريسك زيرو."، ولم يكن الجميع مقتنعا بفكرة المهندس أحمد حسين، وسط انتقادات حادة من خبراء ومسؤولين، بمن فيهم وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، الذي اعتبرها غير قابلة للتنفيذ، والدكتور زاهي حواس، الذي استند إلى استشارة شركة ألمانية نصحت بالتفكيك التقليدي. وخلال مؤتمر عالمي، سخرت شركة فرنسية من قدرة مصر على إدارة آثارها، قائلة: "إذا كنتم لا تستطيعون انتشال آثار غارقة، فكيف ستنقلون تمثالًا يزن 83 طنًا" وصلت هذه العبارة إلى الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي اعتبرها تحديا، فأمر بتنفيذ عملية النقل خلال أربعة أشهر فقط. هنا، عاد الضوء إلى فكرة المهندس حسين، وبدأت شركة المقاولون العرب في تصنيع معدات خاصة وفق تصميماته، واستخدمت رافعة بسعة 475 طنًا، مع إجراء تجربة محاكاة باستخدام نموذج مطابق في الحجم والوزن لضمان نجاح العملية. وجرى تجهيز موكب تاريخي، حيث تحول ميدان رمسيس إلى مسرح عالمي، وتجمعت وسائل الإعلام المحلية والدولية، وتوقع البعض فشل العملية، متخيلين "سقوط التمثال" الذي تنبأ به المشككون، لكن ما حدث كان معجزة هندسية، وتحرك تمثال رمسيس واقفًا بثباتـ وتمايل التمثال قليلا مع أولى خطواته، ثم استقر في وضعه المستقيم وسط ذهول الحاضرين. انطلقت صيحات الإعجاب والتصفيق، وتحولت العملية إلى احتفال وطني عكس براعة المهندسين المصريين، وسط احتشاد المئات في الشوارع والزغاريد انطلقت من نوافذ الشقق في الشوارع التي مر عليها التمثال. وظل الدكتور أحمد حسين بعيدًا عن الأضواء، وعندما سأله أحد الصحفيين عن من يهدي هذا الإنجاز، أجاب بهدوء يعكس تواضعه: "مهديهوش لحد.. أهديه لنفسي، وبهديه لكل المهندسين المصريين والعرب." الملك رمسيس يروي قصته اليوم، مع استعداد مصر لافتتاح المتحف المصري الكبير بمشاركة وفود من 79 دولة، يقف تمثال رمسيس الثاني شامخًا، كأنه يروي قصة رحلته العجيبة من ميدان القاهرة إلى الهرم.