جمال لوتاه* عندما يفكر معظم الناس في العقارات، يتبادر إلى أذهانهم التصميم المعماري، أو الموقع، أو سعر القدم المربعة. لكن الحقيقة أن القيمة الحقيقية لأي عقار اليوم لا تتعلق بمظهره أو موقعه فحسب، بل بكيفية إدارته يوماً بعد يوم بعد افتتاحه. وهنا يأتي دور إدارة المرافق، لتضمن أن يتحول كل قرار تصميمي إلى مجتمع حيّ نابض بالحياة.الإمارات تنمو بسرعة، بأكثر من 11 مليون نسمة وما زال العدد في ازدياد. ومع هذا النمو، ترتفع التوقعات.فاليوم، الناس لا يشترون المنازل من أجل المساحة فقط، بل من أجل أسلوب حياة يعكس طريقة عيشهم. يبحثون عن الراحة، والأمان، والسهولة، والاستدامة كمعايير أساسية. قد يجذبهم مدخل أنيق أو إطلالة خلابة على الأفق، لكن ما يجعلهم يبقون هو التجربة اليومية: هل الصيانة سريعة؟ هل الهواء نقي؟ هل الإضاءة موفّرة للطاقة؟ هذه هي الأسئلة التي أصبحت تشكّل الطلب الحديث على العقارات.قبل عقد من الزمن، كانت مكونات مثل مكاتب الاستقبال، أو أجهزة ضبط الحرارة الذكية، أو وجهات العافية تعتبر رفاهية. أما اليوم، فهي من الأساسيات. فلنأخذ أي برج جديد في دبي كمثال، ستجد فيه أمناً على مدار الساعة، وتطبيقاً مخصصاً لطلبات الصيانة، وربما ألواح شمسية على السطح. هذه العناصر لم تعد مجرد إضافات تجميلية، بل أصبحت معياراً للجودة. في الواقع، أظهر استطلاع حديث شمل أكثر من 1000 مقيم في الإمارات أن 90% يعتبرون البيئة الصحية في المنزل أمراً أساسياً، وأن أكثر من 80% مستعدون لدفع مبلغ إضافي مقابل ذلك. هذا يعني أن الناس لم يعودوا يبحثون عن منازل أكبر، بل عن منازل أفضل تعينهم على حياة أفضل.التطور التكنولوجي زاد من زخم هذا التحوّل وجعله أكثر واقعية وتأثيرًا. إذ تتصدر دولة الإمارات المنطقة في تبنّي حلول المنازل الذكية، فيما يمتلك نحو 80% من سكان الخليج أجهزة متصلة تمكّنهم من التحكم في الإضاءة والمناخ والأمن عبر هواتفهم أو أوامرهم الصوتية. لم يعد هذا من المستقبل، بل أصبح من الأساسيات. ولهذا نرى انتشار مفهوم المساكن ذي العلامة التجارية، التي تُدار كالفنادق، مع خدمات استقبال وتنظيف ومرافق صحية. إنه مزيج بين العقار والضيافة، يغيّر تمامًا معنى كلمة «المنزل».وهنا حقًا تتغير المعادلة. فإدارة المرافق، التي كانت لسنوات تُعتبر وراء الكواليس، أصبحت اليوم في الواجهة. لم تعد تقتصر على إصلاح الأعطال أو تنظيف الممرات، بل أصبحت تتعلق بصناعة التجربة ذاتها، وضمان أن كل شيء يعمل بانسجام تام ليعيش السكان براحة بال.عندما تُدار المرافق بشكل جيد، تشعر بذلك دون أن تلاحظه. المصاعد تعمل بسلاسة، الهواء نقي، وكل تفصيل يبدو مدروسًا. المطورون الذين يفهمون ذلك يجنون ثماره، وهو احتفاظ أطول بالمستأجرين، وجذب مشترين أفضل، وبناء سمعة تفوق أي حملة تسويقية.والأرقام تؤكد ذلك. فقطاع إدارة المرافق في الإمارات مرشح للوصول إلى 10.53 مليار دولار بحلول عام 2029، وهو نمو يعكس أهميته في رفع قيمة العقار. كثير من المطورين أسسوا شركات إدارة مرافق تابعة لهم أو عقدوا شراكات مع مزودين لحماية استثماراتهم. فعندما تُدار المباني بشكل صحيح، تزداد أسعار إعادة البيع، ويحافظ العملاء على ولائهم. إحدى شركات إدارة المرافق الإماراتية أفادت بنسبة احتفاظ بالعملاء تفوق 95% وتجديد عقود يقترب من 90%. هذه ليست صدفة، بل ثقة تُبنى يوماً بعد يوم.والثقة اليوم عامل حاسم، خصوصًا في سوق يعد فيه كل مطور بشيء «أيقوني». الفارق الحقيقي بين المشاريع لم يعد في طول البرج أو فخامة الردهة، بل في جودة الحياة داخلها. المشترون يسألون الآن أسئلة جديدة: كم يستغرق إصلاح عطل؟ هل نظام التبريد موفر للطاقة؟ هل توجد برامج لإعادة التدوير أو إدارة ذكية للطاقة؟ وهنا تتحول إدارة المرافق إلى ميزة تنافسية، وهو الفرق بين مكان يبدو جميلًا ومكان يشعر الناس بأنه منزلهم بحق.الاستدامة دفعت بهذا التحول إلى مستويات جديدة. فقيادة الدولة جعلت من المسؤولية البيئية جزءًا من هوية الإمارات، وتبعها قطاع العقارات في ذلك. لم تعد الاستدامة مجرد شعار دعائي، بل مطلب أساسي. فمعظم تكاليف المباني لا تحدث أثناء البناء، بل أثناء التشغيل، ما يجعل الإدارة الفعّالة أمراً حاسماً للربحية وللقيمة طويلة الأمد.نرى هذا التغيير بوضوح. فالإمارات اليوم ضمن قائمة أفضل عشر دول عالميًا في عدد المباني الحاصلة على شهادة LEED، مع أكثر من 600 مشروع أخضر مكتمل. وتحتل دبي المرتبة الثالثة عالميًا بين المدن في هذا المجال. مناطق مثل مدينة مصدر وموقع إكسبو السابق بُنيت بالكامل حول مفهوم التصميم المستدام، وتُدار بأنظمة طاقة ذكية. والأمر اللافت أن الدراسات تُظهر أن المباني الخضراء لا تكون بالضرورة أعلى تكلفة في البناء، لكنها بالتأكيد أقل كلفة في التشغيل، وهي أخبار جيدة للمطورين والسكان والبيئة معا. أما بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في هذه المجتمعات، فالفوائد فورية: هواء أنظف، فواتير أقل، وشعور بالفخر بالمساهمة في مستقبل أكثر استدامة. مديرو المرافق اليوم ليسوا مجرد فنيين، إنهم حراس الاستدامة. يضبطون أنظمة الهواء، ويراقبون استهلاك الطاقة، ويحرصون على أن يُستخدم كل واط من الكهرباء وكل قطرة ماء بكفاءة.وقد أظهرت دراسات جمعية الشرق الأوسط لإدارة المرافق أن الإدارة الذكية والمستدامة للمرافق يمكن أن تخفّض التكاليف التشغيلية واستهلاك الطاقة بشكل كبير، مع رفع مستويات رضا السكان. ببساطة، الإدارة الجيدة لا تحقق الراحة فقط، بل تحقق العائد أيضاً.بعد عقود في هذا القطاع، شهدت شخصياً تغيّر المشهد تمامًا. لطالما كانت قصة العقارات في الإمارات قصة طموح ورؤية كبيرة وتصاميم مستقبلية لافتة. أما الفصل القادم فهو عن الاستمرارية والاهتمام بالتفاصيل.ومع استمرار الإمارات في بناء مدن أكثر ذكاءً وخضرة وترابطًا، ستكون الميزة التنافسية الحقيقية في كيفية إدارة ما تم بناؤه. فالهندسة المعمارية تسرّ العين، لكن الإدارة الجيدة تكسب القلوب. مستقبل العقار الحقيقي لا يكمن في بناء المعالم فحسب، بل في ضمان استدامتها، وكفاءتها، وسعادتها لمن يسكنها. * رئيس جمعية الشرق الأوسط لإدارة المرافق