الأسبوع الماضي، انتهك الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إحدى أقدم وأقدس ركائز المشروع الأميركي، ففي مقابلة مع برنامج «ميت ذا برس»، على قناة «إن بي سي»، قال إنه «ببساطة غير متأكد ما إذا كان المواطنون غير الأميركيين محميين بحق الإجراءات القانونية المنصوص عليها بموجب التعديل الخامس للبلاد، كما يكفله العديد من أحكام المحكمة العليا». وعندما سُئل عما إذا كان عليه «التمسك بالدستور»، أجاب ترامب: «لا أعرف». وأكد هاوارد دبليو فرينش، كاتب عمود في «الإيكونوميست»، أنه مقياس لمدى تدهور الثقافة السياسية الأميركية خلال أكثر من 100 يوم من تولي ترامب منصبه، وكل موجة جديدة من الانحرافات الاستفزازية المتعمدة عن الماضي لها تأثير كبير، وقبل يومين فقط من تعليقاته على تلك الإجراءات القانونية، نشر ترامب صورة مُولّدة بالذكاء الاصطناعي لنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي وهو يرتدي زيّ «البابا» بكامله. ومنذ مقابلة «إن بي سي»، أخبر ترامب، رئيس الوزراء الكندي الجديد، مارك كارني، أن «الوقت وحده كفيلٌ بإثبات ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على ضمّ جارتها رغماً عنها». وتباهى بأن واشنطن ليست بحاجة إلى أسواق الدول الأخرى، وأصرّ، دون أي أساس، على أن الرسوم الجمركية توفّر على البلاد المال. ومن الأمثلة الأقلّ حماقة، اقتراح فرض ضريبة بنسبة 100% على الأفلام الأجنبية، واقتراح يُثير الحنين إلى الماضي بإعادة فتح «سجن ألكتراز» في خليج سان فرانسيسكو. وبعد إعادة انتخاب ترامب، ومع اختياره أشخاصاً غير مؤهلين بشكل واضح لملء حكومته، حذّرتُ في مقال لي من أن ولايته الثانية، تُمهّد لثورة ثقافية شبيهة بثورة الصين. وفي ذلك الوقت، وجد بعض القراء هذا مُبالغة، ولكن منذ تولي ترامب منصبه، لجأ كثيرون إلى المقارنة نفسها، مقارنين عهد ترامب الجديد، بالعقد الأخير من حكم ماو تسي تونغ (1966-1976)، حيث بدأت هذه الفترة بإثارة الاحتجاجات ضد الدولة كوسيلة لإزالة العوائق التي تعترض سلطة ماو الشخصية، وسرعان ما تحولت إلى فوضى مدمرة وقاتلة. وأعرب أكثر المتشككين في وصف اللحظة الراهنة بالثورة الثقافية عن عدم تصديقهم أن الولايات المتحدة قد تكون على طريق حرب أهلية عنيفة، أو أن ترامب وأنصاره الأكثر حماسة سيشجعون علناً الهجمات المسلحة على منتقديهم، كما فعل أتباع ماو المقربون فيما يسمى بعصابة الأربعة. وأجد صعوبة في استبعاد المزيد من التكتيكات التمردية من قبل ترامب بعد أحداث السادس من يناير 2021، لكن التنبؤ بحرب أهلية أميركية لم يكن قط النقطة الرئيسة في هذه المقارنة. كانت الفكرة أن الإدارة الجديدة ستشن حملة واسعة النطاق وحثيثة، وإن بدت عشوائية في كثير من الأحيان، لتفكيك النظام الأميركي: القيود الدستورية على السلطة التنفيذية، والمكانة الأساسية للمجتمع المدني، وحتى حريات الصحافة والتعبير. وكان النظامان الأميركي والصيني، بطبيعة الحال، مختلفين اختلافاً جوهرياً منذ البداية، فالولايات المتحدة، بحكم القانون، ديمقراطية انتخابية، أما الصين، بحكم تصميمها واعترافها، فهي ديكتاتورية استبدادية، يقودها الحزب الشيوعي الصيني. ومن أبرز ما يميز تجربة الصين خلال الثورة الثقافية، سرعة انهيار سلطتها المركزية المزعومة. فرغم أن ملايين الصينيين مجّدوا (ماو) كأنه «نصف إله»، إلا أنه أصبح عاجزاً تقريباً عن السيطرة على ما أطلقه. وعندما سألتُ أستاذ علم الاجتماع بجامعة «ستانفورد»، الخبير في الثورة الثقافية، أندرو والدر، عما إذا كان ينبغي لنا مقارنة تلك الفترة بالولايات المتحدة الحالية، أجاب في رسالة بريد إلكتروني: «كانت المقاومة للثورة الثقافية الناشئة بين عامي 1966 و1967 ضئيلة للغاية. وفي الواقع، انهار هيكل الدولة من الداخل، حيث أطاح البيروقراطيون العاديون برؤسائهم». وفي محادثة هاتفية تلت ذلك، أضاف والدر، أن ما يميز الولايات المتحدة هو «امتلاكنا أحدث تصميم لنظام سياسي في العالم يعود إلى القرن الـ18 في سيطرته على السلطة الرئاسية غير المقيدة». وقد أظهرت الأسابيع الأخيرة العديد من الدلائل على ذلك، فقد تحدت حاكمة ولاية مين، جانيت ميلز، ترامب بشأن سياساته المتعلقة بالرياضيين المتحولين جنسياً، ونجحت في صدّ جهود إدارته الانتقامية لخفض تمويل التعليم في ولايتها. ومنع قاضٍ فيدرالي ترامب أخيراً من معاقبة شركة محاماة كبيرة لتمثيلها أشخاصاً وقضايا يعارضها. حتى القضاة المحافظون، أصدروا قرارات تُدين استخدام ترامب لقانون «الأعداء الأجانب» لترحيل المهاجرين. لن يكون القضاء الأميركي وحده كافياً لمنع ترامب من إلحاق ضرر جسيم وجذري بالنظام السياسي للبلاد، ففي النهاية، لايزال أمامه معظم ولايته، ولا يبدو أنه قد خضع لأي عقاب. وقد لا أكون متفائلاً بشأن صمود الديمقراطية في البلاد كما يبدو لوالدر، لكنني لست متشائماً تماماً لدرجة الاعتقاد بأن كل شيء سينهار في الولايات المتحدة، كما حدث في الصين خلال الثورة الثقافية. ومن دون وجود كونغرس يلعب دوراً فاعلاً في كبح جماح السلطة الرئاسية، فمن المرجح بمرور الوقت أن تصبح المحاكم أضعف من أن تدافع عن النظام الدستوري لواشنطن والحكم الديمقراطي الذي يُمكّنه. ويأمل العديد من الأميركيين في أن تُسهم نجاحات الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي لعام 2026، في كبح جماح ترامب بفعالية. ومع ذلك، ليس هذا أمراً محسوماً، فكما هو الحال في جميع الانتخابات، لا يمكن ضمان النتائج، وبالنظر إلى مزاعم ترامب الكاذبة بشأن الانتخابات السابقة، يصعب استبعاد حتى أسوأ السيناريوهات. هل ستعقد انتخابات أصلاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ستكون حرة ونزيهة؟ هل سيحترم ترامب، الذي أبدى ميلاً لتجاهل المحاكم، إرادة كونغرس تقوده المعارضة؟ الأميركيون غير معتادين على مثل هذه الشكوك الجوهرية حول نظامهم، لكن من الحكمة أن يأخذوها في الحسبان. ومع ذلك، كان والدر محقاً بشأن كون وضع «العصي في التروس» جزءاً من خطة الآباء المؤسسين. يمكن لمس هذا في عمل الولايات المتحدة، التي تحتفظ باستقلالية كبيرة، ويمكنها حشد مواردها الخاصة للدفاع عن الحياة الديمقراطية، ومقاومة الرغبات الاستبدادية من البيت الأبيض. وقد يكون الرأي العام هو الحصن المنيع، وهذا أمر كان أقل أهمية في الصين (الماوية) أو حتى في الصين، اليوم، لأن الدولة تحكم قبضتها على المعلومات، ولا تتيح للجمهور سوى فرصة ضئيلة للتنبؤ علناً بالسياسات الرسمية. ووفقاً لاستطلاعات الرأي، يحظى ترامب حالياً بأقل دعم شعبي بين أي زعيم أميركي في الـ80 عاماً الماضية، وتميل معدلات التأييد إلى الانخفاض، لا الارتفاع، بعد فترة الهدوء التي تلي التنصيب. في النهاية، سيقرر الشعب الأميركي مدى اعتزازه بالديمقراطية التي بناها على مر الأجيال. ورغم أنه من المقلق أن نرى أن نحو 40% من السكان لايزالون يدعمون ترامب، على الرغم من تجاهله المتكرر للنظام الذي وضعه مؤسسو البلاد، فإن هذا الرقم يُشير إلى أن عدداً أكبر من الأميركيين لايزالون مهتمين بالحفاظ على هذا النظام بما يكفي. هاوارد دبليو فرينش* *كاتب عمود في «الإيكونوميست» عن «الإيكونوميست» . الإدارة الجديدة ستشن حملة واسعة النطاق وحثيثة، وإن بدت عشوائية في كثير من الأحيان، لتفكيك النظام الأميركي. تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App