في زمن لم يعد فيه الهاتف الذكي أو الحاسوب اللوحي ترفاً بل ضرورة، يبرز سؤال مُلحّ: هل نحن نُدير أجهزتنا الإلكترونية، أم أنها هي التي تديرنا؟لقد تسللت التقنية إلى تفاصيل الحياة اليومية: التعليم، والعمل، والترفيه، وحتى التواصل الأسري، لكن هذا الحضور الكثيف، الذي بدا في بدايته واعداً، أفرز تحديات لم يعد بالإمكان تجاهلها، خصوصاً فيما يتعلق بتأثيراتها في الصحة النفسية والاجتماعية والقانونية، وبينما يراها بعضهم نافذة للمعرفة والتطور، يصفها آخرون بأنها سلاح ذو حدين قد يتحول إلى قيد غير مرئيّ يحد الإبداع ويعمق العزلة.بحسب تقارير حديثة لمنظمات دولية مثل «يونيسف» ومنظمة الصحة العالمية، فإن الطفل في المرحلة العمرية (8–12 عاماً) يقضي أكثر من 4 ساعات يومياً أمام الشاشات، بينما يتجاوز المراهقون هذه المدة إلى أكثر من 7 ساعات، ما انعكس مباشرة على أنماط النوم والتركيز والتحصيل الدراسي.أما في الإمارات، فقد أشار تقرير هيئة تنظيم الاتصالات والحكومة الرقمية (2024) إلى أن نحو 85% من المراهقين يستخدمون الهواتف الذكية يومياً، ونسبة كبيرة منهم يمارسون الألعاب الإلكترونية بمعدل لا يقل عن 3 ساعات يومياً.يحذر خبراء علم النفس من أن الاستخدام المفرط يترك آثاراً عميقة، بعضها لا يظهر على المدى القصير.الأطفال يفقدون فرص تطوير مهارات التواصل واللغة، إذ إن التفاعل الواقعي أساس النمو المعرفي والعاطفي.المراهقون عرضة لاضطرابات النوم، القلق، والمقارنة المستمرة مع الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يضعف ثقتهم بأنفسهم.الشباب يواجهون ضغوط «المثالية الرقمية»، صور لحياة مثالية على المنصات الاجتماعية، تزرع شعوراً بالنقص والانعزال.الكبار رغم استفادتهم العملية من التقنية، فإنهم يواجهون آثاراً مثل تراجع النشاط البدني وتزايد الإجهاد الذهني.ويؤكد المتخصصون أن المشكلة ليست في الأجهزة، بل في طريقة إدارتها واستخدامها بوعي. يقول خالد الكثيري، مدير السلامة في دائرة الخدمات الاجتماعية بالشارقة «الوعي الرقمي لم يعد خياراً، بل ضرورة. الأسرة هي الحلقة الأهم، ومن دونها لا يمكن الحديث عن وقاية حقيقية».ويوضح أن لكل مرحلة عمرية معايير خاصة:من (3–10 سنوات)، تحديد وقت الشاشة بما لا يتجاوز ساعة يومياً، مع التركيز على اللعب الواقعي.من (11–18 سنة)، متابعة دقيقة لمحتوى الألعاب والتواصل الرقمي، وتشجيع البدائل كالرياضة.من (18–30 سنة)، رفع مستوى الوعي بمخاطر المقارنات الرقمية والإدمان.فوق 30 سنة، خلق توازن بين العمل الرقمي والحياة الواقعية، للحفاظ على الصحة الجسدية والنفسية. منظور اجتماعي وأسري وشددت عائشة محمد الملا، عضو سابق في المجلس الوطني الاتحادي، على أن الإلكترونيات «سلاح ذو حدين» مؤكدة أن: «الحل لا يكمن في المنع، بل في تنظيم الاستخدام وتقديم بدائل صحية، مثل المطالعة والأنشطة الرياضية والهوايات التي تعزز التوازن النفسي والسلوكي. والتحدي اليوم ليس أمام الأبناء فقط، بل أمام أولياء الأمور أنفسهم الذين يشكلون قدوة في الاستخدام الواعي أو المفرط للتقنية».ترى المحامية علياء العامري، أن المخاطر القانونية لا تقل أهمية عن الأبعاد النفسية. وتوضح أن: التنمّر الإلكتروني أصبح جريمة يعاقب عليها القانون.والشراء داخل الألعاب قد يوقع الأطفال وأسرهم في نزاعات مالية.والإدمان وإن لم يكن جريمة، فإن تبعاته النفسية والاجتماعية تضع مسؤولية على الأسرة والمجتمع.وتضيف: «القوانين الإماراتية، مثل قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، تشدد على حماية الفئات العمرية الأصغر، وتحمّل الأهل والمدارس مسؤولية واضحة في حالة الإهمال». في المقابل، يرى عمران المنصوري، الشريك المؤسس لشركة «كشكول جيمز»، أن صناعة الألعاب الإلكترونية لا ينبغي أن تُتهم دائماً بأنها مصدر الخطر ويقول: «المشكلة ليست في الألعاب ذاتها، بل في غياب القواعد والرقابة. نحن بحاجة إلى تطوير محتوى يناسب ثقافة المجتمع وقيمه، مع تصنيف واضح للأعمار».وتتفق معه آمنة العامري «موكي»، أول إماراتية محترفة في الألعاب الإلكترونية، التي أكدت أن: «الألعاب عالم واسع، لكنها تحمل مخاطر مثل القرصنة وسرقة البيانات إذا غابت الرقابة الأسرية. وعي الأسرة هو السلاح الأقوى لحماية الأبناء».الإلكترونيات اليوم ليست عدواً، بل أداة يمكن أن تكون رافعة للنمو والابتكار إذا ما استُخدمت بوعي. لكن تركها بلا ضوابط قد يحولها عبئاً يهدد الاستقرار الأسري والمجتمعي.والحل يكمن في الموازنة: وضع حدود زمنية واضحة.وتعزيز بدائل واقعية مثل الرياضة والقراءة والعمل التطوعي. وإشراك المدارس في برامج توعية وتثقيف رقمي. وتطوير تشريعات وتشديد الرقابة على المحتوى الموجه للفئات العمرية الأصغر.وأضاف محمد المزروعي، تنفيذي برامج «مركز ربع قرن للعلوم والتكنولوجيا» أن الإلكترونيات والألعاب إذا استُثمرت جيداً، فهي أكثر من مجرد تسلية وهي وسيلة لبناء القدرات وتنمية التفكير النقدي، وصناعة الإبداع عند الشباب في مجالات مثل البرمجة، التصميم والحوسبة، ندرك أيضاً أن هذه التقنيات تحمل مخاطر إذا تُركت من غير توجيه أو متابعة، فهي قد تضيّع الوقت وتبعد الأبناء عن التوازن المطلوب. وهنا يبرز دور الأسرة والمجتمع والأسرة بالمشاركة والرقابة الواعية، والمجتمع بتوفير البيئة الداعمة التي تحوّل الشغف إلى قيمة مضافة.توجّهنا في مركز «ربع قرن» أن نخلق مساحات تجمع بين الترفيه والمعرفة، بين ما يحبّه الشباب وما يحتاجون إليه في المستقبل، مع تعزيز القيم والأخلاقيات. ومن المبهج أن نشهد دوماً حضوراً كبيراً لأولياء الأمور، وهو ما يعكس وعي الأسرة بأهمية مشاركتها في التجارب التي تنمّي شخصيات الأبناء وقدراتهم.بهذا التوازن، تظل الإلكترونيات والألعاب الإلكترونية جسراً للابتكار والمسؤولية، وليست مجرد هواية عابرة، لتصنع جيلاً واعياً، متوازناً، ومبدعاً يخدم نفسه ومجتمعه. الخلاصة المعادلة صعبة لكنها ليست مستحيلة. فكما استطاعت المجتمعات في الماضي التكيف مع اختراعات قلبت حياتها رأساً على عقب، من المذياع إلى التلفاز، فإنها اليوم مطالبة بالتأقلم مع العالم الرقمي الجديد. لكن الفارق أن سرعة التطور اليوم أكبر، وتأثيراته أعمق.الإلكترونيات باختصار ليست مجرد أجهزة، بل أسلوب حياة. والتحدي الحقيقي أن نكون نحن من يحدد شكل هذا الأسلوب، لا أن نترك الشاشات تحدده لنا.