لعل الدرس الذي قدّمه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ورئيس الوزراء الهولندي السابق، مارك روته، على الساحة الدولية في الصيف الماضي - تقديراً واحتراماً للرئيس الأميركي دونالد ترامب - يُمثل اللحظة الأبرز في تخلي أوروبا عن نفوذها، حيث قال روته مخاطباً ترامب: «بابا». ويأمل الأوروبيون أن يُمثل ذلك شيئاً أقل قتامة، وهو البحث عن أسلوب عمل جديد في عالم أكثر تمثيلاً. شهدت السنة الأولى من ولاية ترامب الثانية لحظات عدة قد تضاهي تلك التي شهدها يونيو، عندما خشي أعضاء حلف «الناتو» الأوروبيون من أنه من دون عمل مُنسق، قد تخرج الولايات المتحدة عن مسارها، وتتخلى عن تحالف حافظ على أمن الغرب لما يقرب من ثمانية عقود. لهذا السبب فعل روته ما فعله، ولهذا السبب وضع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يده على ركبة ترامب، ولهذا السبب فعلت العائلة المالكة البريطانية الشيء اللائق، وتوددت إلى ترامب خلال زيارته الرسمية الثانية غير المسبوقة إلى المملكة المتحدة. جُمل عاطفية وراء هذه «الطقوس»، هل هناك ما هو أكثر من ذلك؟ تشير الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط إلى وجود ذلك، وأن تراجع أوروبا حقيقي. وقد وجّه ترامب انتقادات لاذعة عدة لقادة أوروبيين في شرم الشيخ، بعد ساعات من إطلاق سراح 20 رهينة إسرائيلياً كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وأشار إلى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر للصعود إلى المنصة، قبل أن يدير ظهره له. ووصف رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بأنها «جميلة»، وأطلق النكات على ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني. ولم يستحق المستشار الألماني فريدريش ميرتس أي ذكر، وهو أمر يمكن تفسيره إما إيجاباً أو سلباً. قد يصف البعض تصريحات ترامب بأنها مجرد جمل قصيرة عاطفية. وعلى أي حال، فقد أكدت أن ما يطلبه ترامب يحصل عليه. وإذا مُنح جائزة نوبل للسلام في سنوات لاحقة، فسيكون قد نال الإعجاب الذي يتوق إليه. ولا يضاهي ذلك أي هدية أخرى، على الرغم من وجود صفقات تجارية عدة يمكن إبرامها. فكيف إذن يرد ستارمر وماكرون وميرتس بالطريقة الصحيحة؟ الإجابة الأكثر وضوحاً هي «رباطة الجأش»، وهو ما يُظهرونه بالفعل. فهم يقرّون سراً - إن لم يكن علناً - بأنهم على الأرجح لن يحظوا باهتمام أو امتيازات من البيت الأبيض أكثر مما يحظى به قادة قوى متوسطة أخرى. رؤى مشتركة في عصر المجاملات هذا، يبحث ترامب عن رؤى مشتركة، ليس فقط في السياسة الخارجية. لقد لفت انتباه المراقبين أخيراً ما قاله رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة «أكسل سبرينغر»، ماتياس دوبفنر، أثناء مقابلة «بودكاست». وقد يكون دوبفنر العدو الأول لفئة معينة من الليبراليين في ألمانيا، كما أنه يتمتع بشبكة علاقات واسعة بين فئة معينة من المحافظين في واشنطن. خلاصة حجة دوبفنر هي أن أوروبا تفقد أهميتها بسبب نهجها في صنع السياسات، كما أنها بيروقراطية، وتفضّل التنظيم على الابتكار، ولا وجود لها في مجال التكنولوجيا، خصوصاً الذكاء الاصطناعي، وعلاوة على ذلك، فهي مهووسة بحروب ثقافية، ولا تحترم حرية التعبير، بحسب دوبفنر. بينما لا يختلف مسؤولون ومحللون مع هذا التشخيص، أبدت إدارة ترامب تباعداً كبيراً في مواقفها تجاه المؤسسات متعددة الأطراف، لاسيما الاتحاد الأوروبي، فهي لا ترى مبرراً لخوض كل هذه المعوقات للعمل مع 27 دولة ببيروقراطياتها المعقدة. لقد عادت الدولة القومية، أو بالأحرى العلاقة الشخصية مع الفرد المسؤول. تُركت أوروبا لتفعل ما في وسعها حيثما أمكنها ذلك. ومثل الطلاب الذين يرفعون أيديهم في قاعة دراسية، تتنافس الدول على مهام معينة في خطة ترامب الكبرى للسلام في الشرق الأوسط، والمكونة من 20 نقطة. ويزعم البريطانيون بأن تجربتهم مع إيرلندا الشمالية تمنحهم دوراً فريداً في بناء السلام، في حين اقترح الفرنسيون والألمان أن يأخذوا زمام المبادرة في إعادة إعمار قطاع غزة. تحقيق السلام كانت أوكرانيا هي المجال الذي اعتقد الأوروبيون أنهم مارسوا فيه أكبر قدر من النفوذ، حتى وإن كان هشاً ومحدوداً. ويبدو أن التعهد، وإن طُبق بشكل متباين وغامض، بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، قد هدّأ ترامب. إن إحباط الرئيس الأميركي من عدم استجابة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، لطلبه خلال قمتهما الأخيرة، في ألاسكا، جعله يدرك أن تحقيق السلام في الصراع الروسي الأوكراني أصعب بكثير. وبدا وكأنه يبعث الأمل في نفس الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي والأوروبيين بأنه بدأ أخيراً في فهم موقفهم. ثم جاء هجومه على زيلينسكي، الجمعة الماضي، في البيت الأبيض، وتبنيه الظاهري مواقف بوتين، وإعلانه عن قمة أميركية - روسية في المجر، من بين جميع الأماكن، وهي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تظهر الود تجاه الكرملين. وقد يستمر ترامب في التذبذب، لكن المؤشرات ليست جيدة، ففي هذا الصراع أيضاً، أقنع نفسه بأنه - وحده - قادر على استحضار شكل من أشكال الحل بقوة شخصيته. هناك حدود، وربما تم تأجيل أكثر التصريحات غرابة التي صدرت في وقت سابق من هذا العام، فيما يتعلق بالسيطرة على غرينلاند وكندا وقناة بنما. وفي ظل الظروف الراهنة، ليس هذا إنجازاً سهلاً، مع أن المقاومة ممكنة، إلا أنها يجب أن تنفذ بحزم وعناية بالغة. عن «فورين بوليسي» انتقادات لاذعة بعد أن رفض رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، الفكرة الغريبة بأن تصبح كندا الولاية الأميركية الـ51، اضطر إلى تحمل الانتقادات اللاذعة، وزيادة الرسوم الجمركية، لكن عزيمته لم تتراجع. أما بالنسبة لفرنسا والمملكة المتحدة، فقد أثار قرارهما الاعتراف بدولة فلسطين الغضب، غير أنه - بعيداً عن الخطاب القاسي من أعضاء الإدارة - كان رد فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه خافتاً بشكل ملحوظ، وربما يكمن في هذا مفتاح الحل. حتى وقت قريب، كانت إحدى الحكم التقليدية في العواصم الأوروبية هي أن «كل شيء سينحسر»، وأن ترامب سيفقد اهتمامه بإعادة تشكيل العالم على صورته، لكن هذا لم يعد الرأي السائد، فترامب لم يفقد اهتمامه فحسب، بل يبدو أنه نجح في ترسيخ مبدأ «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً» للمستقبل. ومن نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس إلى أدنى المستويات، فإن الحركة باقية، ويبدو أن النهج الأميركي الجديد في التعامل مع السلطة ثابت لا يتغير. • أعضاء «الناتو» يخشون خروج أميركا عن مسارها، والتخلي عن تحالف حافظ على أمن الغرب لما يقرب من ثمانية عقود. تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App