يقدم مسلسل Pluribus حكاية مباشرة ومقلقة في آن: عالمٌ يُعاد ضبطه على الابتسام. ليست عدوى تُتعب الجسد، بل نظام ناعم يفرض شعورًا دائمًا بالرضا، كأن الحزن خطأ يجب تصحيحه. في وسط هذا كلّه تقف كارول ستوركا، كاتبة روايات تاريخية لا تصيبها العدوى. لا تُعاملها الحلقات كبطلة خارقة، بل كإنسانة تواجه مدينة تبتسم أكثر مما يجب، وتحاول فهم القواعد الجديدة من دون أن تفقد نفسها. ريـا سيهورن تحمل السبع حلقات الأولى على كتفيها. أداؤها بسيط ودقيق، يعتمد على نظرة مترددة، حركة محسوبة، وصمت يُقال فيه الكثير. أنت تصدّق من اللحظة التي تراها فيها أنّ كارول محصّنة، لأن الجسد والوجه والنَفَس يؤكدون ذلك قبل الحوار. كل مشهد مع «الابتسامة العامة» يتحول معها إلى اختبار تحمل: اجتماع عمل، مكالمة سريعة، طابور سوبرماركت… تفاصيل صغيرة، لكنها تُظهر امرأة تحاول أن تبقى طبيعية وسط موجة رضا مفروض. بالنسبة لي، هذا أفضل أداء نسائي في 2025 بلا جدال، لأنه لا يستعرض، بل يبني إنسانًا يمكن لمس قلقه خطوة بخطوة. فكرة «الفرح الإجباري» تُقدَّم كعالم كامل لا كشعار. اللغة تصبح ألطف مما يلزم، المجاملات تتحول إلى بروتوكول، و«الإيجابية» تُكتب كقانون غير معلن. الانتماء يعني أن تبتسم… وإلا فأنت المشكلة. بهذه البساطة يتحول السؤال الأخلاقي إلى سؤال يومي: ماذا يبقى من صداقاتنا وأعمالنا وبيوتنا حين يختفي الحق في التعبير الحرّ عن المشاعر؟ المسلسل لا يلجأ إلى محاضرات، بل يترك المشاهد يرى النتائج قبل التفسيرات. تُبنى القاعدة من الأثر، ثم يُلمَّح إلى السبب في الوقت المناسب، بلا إكراه ولا خطاب مباشر. الإخراج يختار توترًا منخفضًا يبقى معك طوال الحلقة. الكاميرا تتحرك ببطء وتفاوض المسافة بينك وبين الشخصيات. الكادر دائمًا أنيق، وفي الخلفية تفصيل صغير يخرج عن السرب: ضوء نيون يهتز، انعكاس غريب على زجاج، أو شخص واقف خارج الإيقاع. لا شيء صارخ، لكن الإحساس بالاختناق يتراكم. المونتاج يمنح كل موقف وقته، فلا تُقطع المشاهد قبل أن «تتخثّر» الفكرة في رأسك. النتيجة أنك تتابع أحداثًا عادية—زيارة عيادة، بريد داخلي لشركة، دردشة جيران—لكن نبض القلق لا يهدأ. الكتابة عند فينس غليغان تمشي على حافة خطرة وتنجو. نسبة الأخطاء في فكرة كهذه كبيرة: خطوة زائدة من الشرح قد تُفسد الرهبة، ورمز مباشر قد يُثقل المشهد. هنا يجري الشرح من داخل الفعل. عندما يقرر النص أن يوضح، يفعل ذلك لأن الشخصيات تحتاجه، لا لأن المسلسل يخاف من سوء الفهم. وعندما يقترب من الفكاهة لتخفيف الكتمة، يعرف متى يتوقف. نعم، هناك لحظات قليلة كان يمكن أن تُقصّر أو تُصقل، لكن الإيقاع يستعيد نفسه سريعًا، فلا يضيع المسلسل طريقه ولا يساوم على مزاجه. أحبّ كيف يستعمل «Pluribus» الأشياء العادية لصناعة هويته. بيت كارول مثال واضح: تصميم دافئ بلا مبالغة، إضاءة هادئة، رفوف مرتبة من دون استعراض. البيت ليس ديكورًا، بل ملجأ لشخص لا يريد أن يسلم مشاعره لبرنامجٍ عام. في المقابل، اختيارات المركبات في الشارع والمباني الرسمية تبدو «مثالية» أكثر من اللازم: طلاء موحد، وقفات متزامنة، دخول وخروج محسوبان من الكادر. هذه التفاصيل تصنع صورًا «قابلة للانتشار» لأنّها تلخّص الفكرة في لقطة: عالم مطمئن إلى حد الإزعاج. الموسيقى تكمّل هذه الروح: نَبض منخفض، جُمل قصيرة تتقدم خطوة وتتراجع نصف خطوة. لا تشرح ما ترى، بل تضع طبقة رفيعة من الكهرباء فوق الكادر. هذا الأسلوب يمنح الإخراج ما يحتاجه لبناء توتر صامت، ويمنع الذروات الصاخبة التي قد تُخرّب المزاج العام. على المستوى الدرامي، السبع حلقات الأولى تمزج بين الرعب الاجتماعي وسخرية خفيفة. العمل لا يهاجم «السعادة» كقيمة، بل يرفض تحويلها إلى التزام إداري. لهذا تأتي اللمسات الساخرة ذكية وقصيرة: «نصيحة إيجابية» تُقال بميكانيكية، ملصق تحفيزي يتكرر حتى يفقد المعنى، ابتسامة موظف توضع في غير مكانها. هذه الومضات لا تكسر الجو، بل تشدّه أكثر، وتذكّرنا بأن شيئًا غير طبيعي يحدث تحت السطح. كارول تنمو داخل هذا الجو باستمرار. ليست مثالية، ولا مصيبة دائمًا. تتردد، تتعب، تفشل أحيانًا في احتضان من حولها كما يجب. لكنها تظل مفهومة ومحبوبة، لأن أخطاءها نتيجة طبيعية لعزلتها. وهنا تتألق سيهورن: تمنح الشخصية مساحة للخطأ من دون أن تفقد التعاطف معها. حتى عندما تخذلنا، نفهم لماذا حدث ذلك، وكيف يمكن أن تتعلم منه. هل كل شيء على ما يرام؟ تقريبًا. هناك دقائق قليلة تبطئ خلالها بعض الحلقات وهي ترسم عالم الشخصيات الجانبية، ولحظات يقترب فيها الرمز من المباشرة. لكنها عثرات عابرة. البناء العام متماسك، والنبرة محفوظة، والوجهة واضحة. الأهم أن العمل يحترم المشاهد: لا يطلب عفوًا مسبقًا ولا يبيع مفاجآت رخيصة. يثق بأن الفكرة قوية عندما تُروى بصدق، وأن الأداء الجيد يكفي لتمريرها بلا خطب. بعد سبع حلقات، يمكن القول إن «Pluribus» يمسك خيطه جيدًا: فكرة عالية المخاطرة تُقدَّم بلغة بسيطة ودراما قريبة من الجلد، أداء نسائي استثنائي يثبت أن الاقتصاد في التعبير قد يكون أقوى من أي انفجار عاطفي، وإخراج يبقيك على حافة أعصابك من دون صراخ. بقي في ذهني وجه كارول وهي تقاوم موجة الابتسامات بابتسامة ناقصة، بيتها الذي يتنفس معها، وسيارة «مثالية» تتوقف في مكان «مثالي» بطريقة تثير القلق أكثر مما تريح. هذه الصور وحدها كافية لتبرير متابعة ما سيأتي ومن المهم هنا التوقف قليلًا عند «قصة» فينس غليغان وكيف يغامر من دون أن يفقد بصمته. صانع المسارات الأخلاقية الدقيقة في «Breaking Bad» و«Better Call Saul» يعود بفكرة تراهن على كل شيء: أن يتحول الخطر إلى شعور يبدو لطيفًا في ظاهره. جرأته ليست صاخبة؛ إنها انضباط وصرامة في بناء عالم واضح القواعد ثم اختبار الشخصيات داخله خطوة خطوة. لا يقدّم خطبًا ولا يصطاد التصفيق السهل، بل يثق بقدرة المشاهد على التقاط التفاصيل حين توضع في المكان المناسب. بهذه الروح، يذكّرنا أن الخيال العلمي يمكن أن يكون بسيطًا في… ومن زاوية الحرفة، يثبت غليغان أنه لا يطارد نجاحه السابق بل يشتق منه طريقة تفكير أكثر نضجًا. يأخذ من سيرته حب الأسئلة الصغيرة التي تكبر مع الزمن، ويضعها هنا داخل قالب اجتماعي يرفض الاستعراض ويعتمد سيطرة ناعمة تتسلل إلى البيت والعمل والشارع. يجرّب نبرة جديدة من دون أن يفقد الاقتصاد في السرد أو احترامه للهدوء. يترك مسافةً بين الجواب والسؤال، ويمنح كارول فرصة لتكون «المعيار الإنساني» داخل المنظومة. بهذه المقاربة، تتحول جرأته إلى وعدٍ واضح للمشاهد بأن المغامرة لن تكون ضجيجًا، بل تجربة محسوبة تُراكم أثرها مشهد… بلا مبالغة.مسلسل Pluribus لا يطرح فكرة «الفرح الإجباري» بإلزام صامت بل يحوله إلى واقع ملموس يدافع عن حقّ المحصنة بالحزن. ريا سيهورن تجسّد كارول وتصنع منها حاجز منطقي في زحام الفرح البغيض، فيما يترجم غليغان جرأته عبر بناء بصري وحسي جديد ووفيّ أيضا لاسلوبه الفريد و النتيجة. عمل ناضج يعيد تعريف معنى المشاعر أيا كانت ويجعل من هذا المسلسل بوابه نقاشية لاعادة تفكيرنا بأهمية الوحدة والحزن أحياناً.