في مقاله الأخير، تساءل الكاتب الكبير عبد الرحمن الراشد بسخرية مُرّة: هل يوجد توقيت غير مريب لبث الاعترافات؟سؤال في محله، لأن الحقيقة في عالمنا العربي تُواجه دوماً بالريبة، لا بالتحليل.. والمريب حقاً لم يكن توقيت التسريب، بل الصمت الطويل الذي سبقه.التسجيل الصوتي الذي جمع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالعقيد معمر القذافي عام 1970 كشف لحظة نادرة من الصدق السياسي: عبد الناصر، زعيم جبهة الرفض، يقول بوضوح إنه مستعد للاعتراف بإسرائيل مقابل استعادة الأرض، ويضيف: «اللي عايز يحارب.. يحارب!»بهذا التصريح، ينسف الرجل بنفسه الشعار الذي صنع أسطورته: «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة» ولم يكن ذلك ضعفاً، بل إدراك متأخر لحدود القوة، وثمن المغامرة، وواقع الإقليم الذي تغيّر.. كانت تلك لحظة خروج عبد الناصر من عباءة الخطابة إلى منطق الدولة.جوهر المشكلة أننا نحن أمة تُقدّس الشعارات وتُجرّم المراجعة، تخشى الاعتراف أكثر مما تخشى الهزيمة. وها هو التسجيل يُثبت أن القائد الذي مجّد الحرب في العلن، اختار التفاوض في السر. فلماذا يُمنَع اليوم على الأجيال أن تعرف هذه الحقيقة؟إن الاستمرار في عبادة الشعارات تحت رايات «الممانعة» لم يُنتج إلا الخسائر. من نصر الله إلى السنوار، تتكرر الخطابات ذاتها، فيما تُدمَّر المدن وتُرهَن القرارات. وحين يُكشف تسجيل تاريخي يعيد ترتيب الرواية، لا نجد ردّاً سوى: «لماذا الآن»؟التسجيل ليس فضيحة لعبد الناصر، بل فضيحة لمن يرفض أن يتعلّم. هو دعوة لإعادة كتابة تاريخ منطقتنا بعيون نقدية لا عاطفية، وتأكيد أن الوطن لا يُصان بالهتاف، بل بالسياسة الرشيدة، والقرار العقلاني.لقد تخلّى عبد الناصر عن الأسطورة.. فمتى نتخلّى نحن عن تقديسها. أخبار ذات صلة