اختلجت المشاعر في الفؤاد، وتعانقت الكلمات في سيلٍ من الحنين، حين بلغنا نبأ الدكتور عبدالملك بن بكر قاضي، الذي انتقل إلى جوار ربه قبل أيام قليلة مضت، بعد مسيرة علمية حافلة جاوزت الأربعين عامًا في خدمة السُّنة والسيرة، وتعليمها ونشرها بأسلوب يجمع بين الرسوخ العلمي وسمو الأخلاق.لقد كان -رحمه الله- قامة في الخلق، ورفعة في العلم، وانكفاءً صادقًا على مراجع السيرة النبوية ومصادرها الأصيلة، فكانت عزيمته لا تلين، وعطاؤه لا ينضب، وقلمه لا يفتر عن التأليف والتحقيق. لم يكن من أهل الضجيج ولا الشهرة، بل من الذين يعملون في صمت، ويؤمنون أن خدمة الدين تكون بصدق العمل وصفاء النية.انكبّ الدكتور عبدالملك على كتب السنة والسيرة، يقلب الصفحات ويستنطق النصوص، حتى أثمرت عزيمته مؤلفات علمية متميزة، أبرزها مشروعه الموسوعي الفريد: «المؤلفون في السنة والسيرة النبوية»، وهو عمل ضخم رصد فيه جهود علماء الإسلام في هذا المجال منذ فجر التصنيف حتى العصر الحديث. كما ألّف «الموسوعة الحديثية الشاملة بين الواقع والمأمول»، وأسّس مبرّة بكر بن عبدالله قاضي الحديثية لطباعة مؤلفاته وتوزيعها مجانًا على المتخصصين والباحثين في مجالات السنة وعلوم الحديث.نال الفقيد الدكتوراه من جامعة الأزهر، والماجستير والبكالوريوس من جامعة أم القرى، وتقلّد مناصب أكاديمية مرموقة، أبرزها عمادة شؤون الطلاب، ووكالة العمادة، ورئاسة قسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث عمل أستاذًا مشاركًا حتى وفاته، وكان موضع تقدير كل من عرفه ودرس على يديه.كان مجلسه عامرًا بالأدب، وحديثه مليئًا بالحكمة، وسلوكه امتدادًا لسنةٍ عاش لأجلها. لم يكن العلم عنده معلومات تحفظ، بل خلقٌ يُمارس، وتواضعٌ يُدرّس، ورفقٌ يرافقه في كل مقام. فإذا تحدّث، استمع الناس بخشوع، وإذا صمت، حضرت الهيبة، وكأن روحه مأخوذة من نور السُّنة النبوية نفسها.حين ودّعناه، ودّعنا قامةً علمية، ورفعةً إنسانية، ورمزًا للانكفاء على العلم لا على الحياة. كان انكفاؤه على كتب السيرة استغراقًا في حب النبوة، وانقطاعًا لخدمة تراث محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وها هو اليوم يودّعنا وقد أبقى لنا أثرًا طيبًا وأمانة علمية عظيمة.رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. أخبار ذات صلة