عرب وعالم / السعودية / عكاظ

الاستثمار في التعليم: من كلفة آنية إلى محرك للنمو المستدام

لم يعد الاستثمار في التعليم مجرد بند في الموازنات العامة أو إنفاق اجتماعي تقليدي، بل بات رافعة إستراتيجية تعيد تشكيل رأس المال البشري وتربطه بدورة الاقتصاد. فالتعليم اليوم يُنظر إليه كأصل استثماري طويل الأمد ومحرك رئيس للتنمية المستدامة، يحدد موقع الدول في سباق التنافسية العالمية ويعزز قدرتها على النمو في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة.

وقد أبرز تقرير اليونسكو العالمي لرصد التعليم (ديسمبر 2024) أن الاقتصادات التي توجه استثماراتها نحو التعليم المبتكر القائم على التكنولوجيا والشراكات البحثية تحقق معدلات أعلى من التنافسية، وتخطو بخطوات أسرع نحو التحول الوطني. وفي السياق ذاته، جاء منتدى التعليم العالمي – Education World Forum (EWF 2025)، الذي انعقد في لندن خلال الفترة من 18 إلى 21 مايو 2025، ليؤكد أن التعليم ليس تكلفة آنية، بل استثمار إستراتيجي طويل الأمد. ويُعد هذا المنتدى أكبر تجمع سنوي لوزراء التعليم وممثلي السياسات التعليمية في العالم، وقد شدّد على خطورة الفجوة التمويلية العالمية المقدّرة بنحو 97 مليار دولار، مطلقًا دعوات إلى تبنّي أدوات تمويل مبتكرة مثل التمويل المختلط، الاستثمار المؤثر، وآليات تبادل الديون، بما يسهم في تعبئة الموارد بكفاءة وفعالية.

هذا ما أدركته الدول الكبرى والاقتصادات المتقدّمة مبكراً وأثبتت التجارب التاريخية أن الاستثمار في التعليم النوعي يولّد عوائد اقتصادية تتجاوز الفرد لتشمل المجتمع بأسره. فالنماذج الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، جعلت من التعليم بوابة رئيسة للانتقال إلى اقتصاد المعرفة، حيث ارتبطت جودة التعليم بنمو الصناعات التكنولوجية وزيادة الإنتاجية الوطنية. وفي الولايات المتحدة، أسهمت شراكات الجامعات مع القطاع الخاص في خلق منصات ابتكار كبرى، مثل وادي السيليكون، الذي أصبح نموذجًا عالميًا للاستثمار غير المباشر في التعليم.

المملكة العربية ، في إطار رؤية 2030، تسير على النهج ذاته، حيث بدأت بخطوات جادة نحو ربط التعليم بالاقتصاد المعرفي، إدراكًا لدوره المحوري في تحقيق التنمية المستدامة. وقد انعكس ذلك في مجموعة من الممارسات التي جعلت من التعليم رافعة للتنمية الاقتصادية، من أبرزها برنامج الابتعاث الخارجي الذي يعد أضخم استثمار في رأس المال البشري لإكساب الكفاءات الوطنية خبرات عالمية تعود لتغذية الاقتصاد الوطني، وبرنامج «ادرس في السعودية» الذي يستقطب الطلبة الدوليين ويعزز مكانة المملكة كمركز تعليمي إقليمي. كما أن هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار (RDI) تمثل الذراع الإستراتيجي لربط التعليم العالي والبحث العلمي بالاقتصاد بالأولويات الوطنية في مجالات حيوية مثل والذكاء الاصطناعي والصحة والبيئة، من خلال تحويل المعرفة إلى قيمة اقتصادية ملموسة، وضمان أن ينعكس الاستثمار في البحث والابتكار على التنمية والتنويع الاقتصادي والتنافسية العالمية.

وإلى جانب ذلك، أسهمت مبادرات دمج الذكاء الاصطناعي والبرمجة في المناهج الدراسية ابتداءً من 2025 في إعداد جيل متقن لأدوات الاقتصاد الرقمي، كما عززت المملكة دور أودية للتقنية والمراكز البحثية في تحويل الأبحاث الأكاديمية إلى ابتكارات تجارية وشركات ناشئة. كذلك توسعت في التعليم التقني والمهني وعززت الشراكات بين الجامعات والقطاع الخاص، بما يضمن أن تتحول مخرجات التعليم إلى قيمة اقتصادية مباشرة تدعم مسار التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة.

وبهذه السياسات، تنتقل المملكة من النظر إلى التعليم كبند إنفاق إلى اعتباره مجالًا استثماريًا إستراتيجيًا يعزز الناتج المحلي، ويغذي الاقتصاد المعرفي، ويُمكّن الأجيال القادمة من قيادة التحول الوطني.

التعليم، في جوهره، هو البنية التحتية الخفية التي تُحدد موقع الأمم على خريطة الاقتصاد العالمي. من يراه مجرد كلفة سيظل أسيراً للتحديات، أما من يعامله كأصل استثماري إستراتيجي فسيمتلك أدوات المستقبل، ويصوغ اقتصاداً قادراً على الاستدامة والنمو.

وبذلك يتضح أن الاستثمار في التعليم لا تُقاس جدواه بحجم الموارد المرصودة له بقدر ما يتوقف على جودة التنفيذ وصرامة الحوكمة في تحويل الخطط والسياسات إلى ممارسات عملية ذات أثر ملموس. فقد أثبتت التجارب الدولية أن الإنفاق وحده لا يكفي لتحقيق العوائد المنتظرة ما لم تُترجم الإستراتيجيات إلى واقعية تستجيب لخصوصية النظام التعليمي واحتياجاته الوطنية. ومن هنا، فإن القيمة الحقيقية تتحقق عندما تتكامل الرؤية الوطنية مع آليات تنفيذ فعالة وأطر حوكمة صارمة، مع الاستفادة الذكية من الخبرات الدولية بوصفها مرجعًا داعمًا، لا بديلًا عن سياسات محلية تُبقي التعليم في صميم التنمية المستدامة وتؤهله ليكون استثمارًا وطنيًا طويل الأمد.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا