لا يزيل دوران عجلة الزمان سؤالا ما زال حاضرا حتى اليوم: كيف أن الحرب على الإرهاب التي بدأت كاستجابة لتهديد خارجي أدت في النهاية إلى انقسامات وتوترات داخلية عميقة، بعد أن غيرت وجه العالم؟
ربما كان اغتيال كيرك آخر تلك الفصول الدموية، لكن هل كان هذا الاغتيال خاتمة غير متوقعة لمسار بدأ قبل أكثر من عقدين، أم أنه نتاج منطقي للتغيرات التي طرأت على العالم؟
مرحلة جديدة للأمن العالمي
لم يكن صباح الـ11 من سبتمبر يوما عاديا، بل كان بداية مرحلة أدت إلى تغير وجه العالم، فالهجمات على برجي التجارة في نيويورك والبنتاغون لم تقتصر آثارها على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، إنما أطلقت شرارة مرحلة جديدة عنوانها الحرب على الإرهاب.
كانت هجمات سبتمبر بمثابة انقلاب جيوسياسي دفع بالولايات المتحدة إلى مراجعة شاملة لمنظومتها الأمنية على المستويين الداخلي والخارجي. فوفقا لتقرير صادر عن مركز بيو للأبحاث، أدت الأحداث إلى تغيير جذري في الرأي العام الأمريكي الذي بات يؤيد التدخل العسكري الخارجي لمنع تكرار ما حدث. وهذا التحول لم يكن تكتيكيا بل كان إستراتيجيا، إذ تم استبدال سياسات الردع التي سادت في حقبة ما بعد الحرب الباردة، بنهج استباقي يقوم على الحرب المفتوحة على الإرهاب.
ولم يقتصر التحول على الفكر النظري، فسرعان ما دخلت القوات الأمريكية كلا من أفغانستان والعراق خلال سنوات قليلة، لتخوض حروبا طويلة أنفقت فيها تريليونات الدولارات دون أن تحقق الاستقرار المنشود، وانتهت بانسحاب فوضوي من أفغانستان في عهد الرئيس بايدن. وقد أدى ذلك إلى مزيد من عدم الاستقرار والصراعات المذهبية وظهور تنظيمات إرهابية جديدة مثل «داعش» في الشرق الأوسط. لقد أثبتت هذه الأحداث أن الرد العسكري على الإرهاب لم يقضِ على الظاهرة، بل أعاد تشكيلها ونقلها إلى مسار جديد. فرغم النجاحات التكتيكية كالقضاء على قادة الفكر الإرهابي مثل أسامة بن لادن، فإن المواد البحثية تظهر فشلا إستراتيجيا ذريعا. فالحرب التي كان هدفها القضاء على الإرهاب أدت إلى ظهور تنظيمات جديدة، واستمرار التهديد، وتكلفة مالية باهظة من المتوقع أن يصل إجمالي قيمتها مع الفوائد إلى 6.5 تريليون دولار بحلول عام 2050. كما تسببت السياسات الأمنية المتشددة في جدل سياسي محتدم حول الهجرة والحقوق المدنية.
صدمة نفسية واجتماعية
ترك المشهد المروع لهجمات سبتمبر بصماته في الوعي الجمعي. وارتفعت مستويات القلق والخوف في المدن الكبرى، وتغيّرت عادات السفر والعمل ونشأت في أرجاء العالم كافة سياسات أمنية مشددة، ليصبح عبور المطارات والحدود تجربة مختلفة تماما عما كانت عليه قبل ذلك الصباح. وعلى الرغم من أن الأمريكيين توحدوا لفترة وجيزة خلف شعارات التضامن الوطني، لكن مع مرور الوقت بدأ الإحباط يتسلل بسبب طول أمد الحروب وتراجع الثقة في الحكومات.
المسلمون تحت المجهر
انعكست الهجمات الإرهابية سلبا على صورة المسلمين في الغرب، إذ تصاعدت ضدهم حالات التمييز وانتشرت المراقبة، وأصبح الإسلام مرتبطا في أذهان كثيرين بالتهديد الأمني. ولعب الإعلام مع السياسية دورا بارزا في تكريس هذه الصورة، بينما دفعت الجاليات المسلمة ثمنا اجتماعيا ونفسيا باهظا، بعد أن أحدثت هجمات سبتمبر شرخا في علاقات أمريكا بمواطنيها المسلمين، وبروز أسئلة وجودية على الساحة العامة مثل: «لماذا يكرهوننا؟»، و«لماذا قام مسلمون بهذه الهجمات؟». وأدى هذا المناخ السياسي والاجتماعي إلى تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، إذ تعرض الآلاف من المسلمين لمضايقات أمنية، إضافة إلى التنمر والعنصرية والاستهداف المجتمعي.
وتظهر الأرقام حجم هذا الاستقطاب، ففي استطلاع لـ«غالوب» كشف أن 62% من الجمهوريين قالوا إنهم لن يصوتوا أبدا لمرشح مسلم للرئاسة. كما أن نسبة الجمهوريين الذين يربطون الإسلام بالعنف ارتفعت من 32% في عام 2002 إلى 72% في عام 2021. لقد تحول خطاب صراع الحضارات الذي ساد في فترة ما بعد الهجمات إلى صراع داخلي، خلق انقساما مجتمعيا حادا بين المواطنين الأمريكيين أنفسهم.
ويحدث ذلك بالتزامن مع تحول أمني يتمثل في سلسلة تغييرات تشريعية غير مسبوقة، بدأت بإقرار قانون «باتريوت آكت» الذي منح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة في الاستجواب والتفتيش والاعتقال دون الالتزام الكامل بالإجراءات القانونية التقليدية. وكان هذا القانون بمثابة زوال للحدود التي كانت تفصل بين التحقيقات الجنائية العادية وقضايا الأمن القومي.
إرث ثقافي وتكنولوجي
حتى الثقافة لم تكن بمنأى عن أحداث سبتمبر. ويلحظ المتابعون أن هوليوود والنتاج الأدبي ووسائل الإعلام امتلأت بقصص عن الإرهاب والتضحية. وفي الوقت نفسه، تطورت تقنيات المراقبة والذكاء الاصطناعي لتصبح جزءا من الحرب على الإرهاب، فاتحة الباب لمرحلة جديدة من الجدل حول الخصوصية.
اغتيال كيرك يعيد الذاكرة
وفي الوقت الذي ظن فيه الناس أن العالم بدأ يبتعد شيئا فشيئا عن إرث هجمات سبتمبر، جاء اغتيال الناشط الأمريكي المحافظ تشارلي كيرك ليعيد المخاوف الأمنية من جديد إلى الواجهة. فالرصاصة التي أطلقت عشية الأربعاء لم تقتله فحسب بل ذكّرت الجميع بأن الإرهاب والعنف السياسي لم يغادرا المشهد، وأن الظلال الثقيلة لهجمات سبتمبر لا تزال حاضرة في السياسة والمجتمع حتى اليوم.
إن هذا الاغتيال ليس حدثا منعزلا، إنما واحد من نتائج المسار الذي رسمته أحداث 11 سبتمبر. لقد بدأت أمريكا حربا شاملة ضد الإرهاب، واستخدمت أدوات غير مسبوقة لتوحيد الجبهة الداخلية ضد عدو خارجي. لكن الانقسامات الاجتماعية والسياسية التي نمت في ظل هذا المناخ، إضافة إلى التكلفة الباهظة للحروب التي لم تُحسم، أدت إلى تحويل تركيز الخوف والغضب من الخارج إلى الداخل. إن الاغتيال السياسي لكيرك ليس إرهابا شبيها بذلك الذي ساد بعد 11 سبتمبر، بل هو إرهاب سياسي داخلي، ينبع من الاحتقان المتراكم على مدى عقدين. ويشير هذا الحدث إلى أن «العدو» لم يعد «خارج حدود أمريكا» بل أصبح هذه المرة «بداخلها».
ويمكن اعتبار اغتيال كيرك نهاية رمزية لمرحلة الحرب على الإرهاب التي بدأت بـ11 سبتمبر. فبعد 20 عاما، تنهي واشنطن حربها الأطول في أفغانستان، ويبدو أن عصر التدخلات العسكرية الكبرى قد انتهى. لكن العنف لم ينته، بل عاد ليضرب في قلب المجتمع الأمريكي، وهذه المرة كعنف سياسي. وهذا يطرح تساؤلا جوهريا حول مستقبل الولايات المتحدة والعالم بعد أن انتهت الحروب الخارجية، ولكن لم تنته أسبابها الداخلية.
إرث هجمات سبتمبر
في الختام، يظهر أن تبعات هجمات سبتمبر لم تُنهِ تهديد الإرهاب، بل غيّرت طبيعته. وأدت إلى حروب استنزافية في الخارج مقابل تآكل للحريات في الداخل، وتفاقم الانقسامات الاجتماعية والسياسية. إن رصاصة يوتا ليست حدثا معزولا، بل هي نتيجة حتمية لهذا المسار التاريخي. إنها تُخبرنا أن التهديد الحقيقي لم يعد فقط في الطائرات المحطمة أو الأبراج المنهارة، بل في الانقسام واليأس الذي ينمو داخل المجتمعات نفسها.
ولعل الدرس المستخلص من دروس العقدين الماضيين يتمحور حول أن التحديات الأمنية والسياسية المستقبلية لن يتم حلها فقط بالإستراتيجيات العسكرية البحتة، بل تحتاج حلولا جذرية تكافح الأسباب العميقة للتطرف، سواء كانت خارجية أو حتى داخلية، لأن الحرب الحقيقية على الإرهاب يجب أن تنطلق من معالجة الانقسامات وبناء مجتمعات مرنة تسودها العدالة والالتزام بحقوق الانسان مع الاستثمار في أسباب السلام بدلا من مسببات الحرب.
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.