حين بدأت حياتي العملية، كنت معلماً في مدرسة التذكارية بحي البطحاء في الرياض، أقف كل صباح أمام مئات الطلاب. تسع سنوات قضيتها هناك، عرفت خلالها ماذا يعني أن تكون معلماً لطفل في السادسة أو السابعة من عمره: أن تنزل بعقلك إلى مستوى تفكيره حتى تستطيع أن توصل له أبسط المعلومة، أن تتحمّل دموعه حين يفشل، وضحكاته حين يلهو، وعندما يطلب اهتماماً خاصاً لأنه يشعر بالتهميش، وتصرفاته العفوية التي قد تتكرر عشرات المرات في اليوم، كل ذلك وأمامك ثلاثون أو أربعون طالباً في فصل واحد، يصبح على المعلم أن يدير هذا العالم الصغير بحكمة وصبر ومرونة في آن واحد. هذه التجربة جعلتني أوقن أن مهنة المعلم ليست وظيفة عادية، ولا يمكن التعامل معها بمنطق الحضور والانصراف. إنها مهنة استثنائية بكل تفاصيلها. إنها عمل ممتد يرافقه في البيت كما في المدرسة، في التفكير كما في التحضير، وفي المشاعر كما في الأداء. معلم الابتدائية صبر يتجاوز المألوف، معلم الصفوف الدنيا يعيش يومياً تحدياً معقداً، كيف يحافظ على انتباه عشرات الأطفال، وكيف يحول لحظة الفوضى إلى فرصة تعليمية؟ ليس الأمر مجرد تلقين، بل هو تربية وبناء شخصية. هنا يصنع المعلم الخطوة الأولى التي تحدد مسيرة الطالب لسنوات قادمة. إن نجح في غرس حب التعلم والانضباط، سهلت المهمة في المراحل التالية، وإن فشل، حمل الطالب خبرات تعليمية ونفسية يصعب تجاوزها. أمّا معلمو المرحلة الثانوية، فهم يعيشون مع صراع المراهقة والأسئلة الكبرى حيث التحدي مختلف تماماً. هم يواجهون مراهقين في مرحلة حساسة من العمر؛ عقول تبحث عن الاستقلالية، وقلوب تختبر حدود القوانين، وألسنة تطرح الأسئلة الجريئة حول الحياة والمجتمع. هنا يصبح المعلم موجهاً أكثر من كونه ناقلاً للمعلومة. هو من يوازن بين الانضباط والحرية، وبين التوجيه والتفهم. بل يمكن القول إنه أحياناً يلعب دور «المرشد الاجتماعي والنفسي» الذي يساعد الطلاب على العبور بأمان نحو مرحلة النضج. لماذا مهنة المعلم ليست كأي مهنة؟ 1. حجم التأثير: الموظف العادي يتعامل مع عدد محدود من الأشخاص، بينما المعلم يتعامل يومياً مع مئات الطلاب، ويترك أثراً في آلاف على مدار مسيرته. 2. تنوع الأدوار: المعلم ليس مفسّراً للمناهج فقط، بل قدوة، ومرشد، ومربٍّ، وموجّه سلوك. 3. العمل النفسي والعاطفي: عليه أن يضبط أعصابه، ويحتوي طلابه مهما كانت تصرفاتهم، ويوازن بين العدالة والحزم والرحمة. 4. العمل الممتد الذي لا ينتهي: من الحقائق والممارسات المؤكّدة التي لا يمكن تجاهلها أن طبيعة عمل المعلم لا تقتصر على ساعات الدوام الرسمي، بل تمتد إلى خارج المدرسة من خلال التحضير اليومي للدروس وخطط التدريس، ومتابعة أعمال الطلاب، والتواصل مع أولياء الأمور، والتطوير المهني المستمر، وكل هذا الجهد الخفي لا يظهر في سجلات الحضور والانصراف. وعلى الرغم من هذا كله للأسف، ما زالت بعض المؤسسات التعليمية تتعامل مع المعلم بعقلية الموظف الإداري. الأهم هو الحضور والانصراف، والملفات والتقارير، لا جودة الدرس ولا تفاعل الطلاب. إن اختلاف النظرة إلى المعلم، إمّا حجر زاوية في بناء المجتمع أو مجرد ترس في آلة بيروقراطية؛ هي التي تحدد مصير النظام التعليمي ومستقبله وجودته في أي دولة. وهناك تجارب عالمية تُعدّ خير شاهد على ذلك. في دول مثل فنلندا وسنغافورة، لم يصبح التعليم نموذجاً عالمياً بمحض الصدفة، بل كان نتيجة قرار إستراتيجي بوضع المعلم في قمة الهرم الاجتماعي والمهني. في فنلندا مثلاً، مهنة التعليم هي الأكثر تنافسية وجاذبية، حيث يُقبل ما يقارب 10% فقط من المتقدمين في كليات التربية، ويعتبر الحصول على الماجستير شرطاً أساسياً للتدريس، كما أن المعلم يتمتع بثقة كاملة واستقلالية عالية داخل الفصل المدرسي. وفي سنغافورة، يُمنح المعلم رواتب مجزية ومكانة اجتماعية رفيعة، ويحصل على تطوير مهني مستمر ومكثف. في المقابل، هناك نماذج فشلت في تعليمها عندما تعاملت مع المعلم كموظف إداري تنفيذي، وكانت النتائج كارثية. ففي بريطانيا، مثلاً، خلال فترة التسعينات، أدّت السياسات التي ركزت على البيروقراطية وأثقلت كاهل المعلمين بالأعباء الإدارية إلى تدهور المعايير التعليمية ودفع الكثير من المعلمين إلى هجر مهنة التعليم. وفي وقتنا الحالي تشهد الأرجنتين تدهوراً في علاقة المعلم بالتعليم بسبب عدم الاهتمام بدور المعلم تعليمياً واقتصاره على كونه وظيفة من منظور إداري، مما يهدد مستقبل التعليم العام بأكمله في الأرجنتين. وأخيراً، في اليابان، التي طالما كانت نموذجاً مميزاً في التعليم، بدأت تعاني من نقص حاد في المعلمين بسبب ساعات العمل الطويلة والإرهاق الشديد للمعلمين من الأعباء الوظيفية الإدارية. كل هذا يثبت أن أي نظام تعليمي مهما بلغت قوّته وتميّزه، لا يمكن أن يستمر في ذلك دون حماية ورعاية معلميه، والرفع من مكانتهم وفهم دورهم الوظيفي تعليمياً وليس إدارياً فقط. ما الذي نحتاجه إذا أردنا أن ننهض بتعليمنا؟ لا بد أن نبدأ من المعلم: • تقدير حقيقي: نحتاج إلى أن نرفع مكانة المعلم مجتمعياً وإعلامياً، فلا يُنظر إليه كموظف حكومي عادي، بل كقائد تربوي. • تخفيف الأعباء: تقليل الأعمال الورقية والإدارية التي تستهلك وقته وتشتته عن جوهر مهمته. • التطوير المستمر: برامج تدريبية نوعية، مرتبطة بالتقنيات الحديثة وأساليب التعليم الفعّال. • منحه الثقة والصلاحيات: ليتصرف كقائد داخل فصله، لا كمنفذ حرفي للتعليمات. من عاش تجربة التعليم في الميدان، كما عشتها، يعرف أن المعلم ليس موظفاً عادياً، بل هو صانع مستقبل، ومهندس قيم، وباني أجيال. التعامل معه كبيروقراطي ينتهي دوره عند نهاية الدوام ومستوى أدائه مرتبط بدرجة انضباطه بالحضور والانصراف ظلم له وللتعليم وللمجتمع بأسره. إذا أردنا جيلاً متعلماً منافساً في عالم سريع التغير، فعلينا ألا نتعامل مع المعلم على أنه موظف إداري، وأن نبدأ برفع مكانة المعلم، وحمايته من النظرة الإجرائية الضيقة، ومنحه ما يستحق من تقدير وصلاحيات ودعم. فالمعلم هو نقطة البداية لأي إصلاح، وهو الاستثمار الحقيقي في مستقبل هذا الوطن. أخبار ذات صلة