تم النشر في: 21 سبتمبر 2025, 8:08 صباحاً الانتماء والهُوِيَّة مصطلحان بينهما كثير من الروابط المشتركة، حيث يُستخدم كل منهما جزءًا في تعريف الآخر. ومما خَلَصتُ من قراءتي في هذا الموضوع، أن الانتماء شعور داخلي، ويكون متعددًا، أما الهُوِيَّة فهي شيء ظاهري فريد. وقد جمع بينهما أمير علوان في كتابه «الهُوِيَّات القاتلة»، حيث قال: «إن الهُوِيَّة مؤلفة من انتماءات متعددة، ولكن لا بد من التأكيد كذلك أنها واحدة، وأننا نعيشها بكليتها». والانتماءات الأساسية هي: الدين، واللغة، والوطن، والقبيلة. ولا بد من اختيار أحدها ليكون هُوِيَّة، كما أكد علوان في موضع آخر من كتابه الآنف الذكر، حيث قال: «إن هنالك انتماءً أساسيًّا يسمو على الانتماءات الأخرى كافة مهما كانت الظروف، يمكننا أن ندعوه بصورة مشروعة «هُوِيَّة»». فالانتماء للدين -وهو في حالنا الإسلام- يعد من أقوى الانتماءات، وهو الذي قامت عليه دعوة رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو هُوِيَّة مَن كانوا في تلك الحقبة، وعاش المسلمون بسلام، إخوة متحابين، على أساس «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى»، ومع ذلك تَقبَّل المسلمون التعايش مع اليهود في المدينة المنورة، وقَبِلوا جوارهم، ومَنَحوا اليهود والنصارى الحرية التامة في ممارسة طقوسهم الدينية، وأُعطي المُستأمَنون والمُعاهَدون الأمان وسلامة العيش في بلاد المسلمين، وحُرِّمَ إيذاؤهم، حتى إن «من قتل مُعاهَدًا لم يَرِحْ رائحةَ الجنة». لكنْ شابَ هذا الانتماءَ كثيرٌ من التشويه؛ بظهور الانتماءات الحزبية والمذهبية والتطرف الديني، ممن غَذَّى الإرهاب، والتناحر باسم الإسلام، حتى إنه صار لا يُكتفى بذكر لفظ «مسلم» للتعبير عن الانتماء، بل استُعيض بذكر المذهب أو الطائفة بدلًا عنه. أما الانتماء للغة -وهي في حالنا اللغة العربية- فحال الأمة العربية في هذا الزمان لا يشجع لجعله انتماءً أساسيًّا تتشكل منه الهُوِيَّة. وأما الانتماء للقبيلة أو المنطقة فهو من أسوأ الانتماءات، ولا يصلح بأي حال من الأحوال انتماءً أساسيًّا، فهو أكبر وقود للعنصرية المَقِيتة، التي تسببت في كثير من المشكلات الاجتماعية. وأما الانتماء للوطن، فهو أصلح الانتماءات ليكون انتماءً أساسيًّا تتشكل منه الهُوِيَّة؛ لأننا مطالبون بالعثور على هُوِيَّتنا بعيدًا عن الانتماءات التي قد تكون سببًا من أسباب الصراعات، وهو الوحيد الذي يحقق ذلك. ولن نصل إلى السلم المجتمعي حتى يكون الانتماء للوطن هو الانتماء الأساسي الذي تتمثل به هُوِيَّتنا، وهذا لا يُلغي بقية الانتماءات، بل يجعلها تابعة له؛ لأن الأعداء لن يستطيعوا التغلغل في بلد ما إلا بعد أن يُفسدوا مواطنة شعبه. وواقعنا المجاور خير شاهد على ذلك، فعندما بُنيت تلك الدول على تعظيم الهُوِيَّات الفرعية على حساب الهُوِيَّة الوطنية، تَشكل عندها مواطنون يدينون بالولاء لأطراف خارجية، فتزعزع الأمن، وانتشرت الفوضى، وضاقت المعيشة، وانحدر الاقتصاد. وفي كل عام، في ذكرى اليوم الوطني، لا يكون الأمر مجرد احتفال رسمي أو مظاهر فرح عابرة، بل هو مناسبة تُعيدنا إلى أصل الفكرة التي قامت عليها هذه البلاد: فكرة الهُوِيَّة الوطنية التي وحَّدت القلوب قبل أن توحِّد الجغرافيا. الهُوِيَّة هنا ليست مجرد انتماء شكلي، وإنما إحساس عميق بالانتماء إلى تاريخ ممتد وجذور ضاربة في عمق الأرض، وإرث ثقافي واجتماعي شكَّل ملامح الشخصية السعودية. اليوم الوطني يذكِّرنا بأن الهُوِيَّة ليست ورقة تعريف أو شعارات تُرفع في المناسبات، بل هي وعي جمعي يربط الفرد بوطنه، ويجعله جزءًا من قصةٍ كبرى تتجاوز حدود الفرد لتحتضن ملايين المواطنين الذين يشتركون في المصير ذاته. ففي هذا اليوم، يلتقي الماضي بالحاضر؛ نستحضر تضحيات المؤسِّسين وبطولاتهم، ونقارنها بما نشهده اليوم من نهضة شاملة وطموحات تعانق آفاق المستقبل. إن استحضار الهُوِيَّة الوطنية السعودية في اليوم الوطني، ينبغي أن يُترجم إلى ممارسات واقعية: من الاعتزاز بالانتماء الدائم لهذا الوطن بثوابته الدينية والجغرافية ورموزه السياسية، والفخر بالتراث، والانخراط في مسيرة البناء. ومن هنا، فإن الاحتفال باليوم الوطني ليس تَرَفًا عاطفيًّا، بل هو لحظة وعي عميق بأن هذه الهُوِيَّة هي مصدر قوتنا ووحدتنا، وهي الأساس الذي يجعل الوطن أكثر قدرة على مواجهة تحدياته وتحقيق تطلعاته.