عرب وعالم / السعودية / عكاظ

اليوم الوطني.. الذاكرة والوعي التاريخي

إن أية نقاش حول كيفية مساهمة الوعي التاريخي الجمعي في تعزيز الهوية الوطنية وبناء شعور مجتمعي متماسك، لابد أن يتناول العلاقة الجدلية بين التاريخ والذاكرة. فإذا كان القيام بالتاريخ يمثل ممارسة فكرية تتضمن بناء سرديات زمنية، وصياغة خطوط تفسيرية، وجمع الأدلة، وتكوين تراث مكاني، فإن ذلك يعني أيضًا أنه ممارسة نفسية أو نمط تعلم يتضمن الاستذكار، والتعرف، والتأويل، وبالطبع توظيف الخيال. هذه العملية ترتبط بالأبستمولوجيا، حيث يسعى المؤرخون إلى إنتاج المعرفة، ومن ثم يصبح من الضروري ألا نسأل فقط «عما يتم تذكره»، بل «كيف يتم تذكره»؟ فالتاريخ والذاكرة يشكلان نقطة التقاء بين البراغماتية والدلالة، أو بين الموضوعية والذاتية، وبالتالي فإن تنمية الوعي التاريخي كجزء من الهوية الوطنية لا يمكن فصلها عن التفاعل المتشابك بين المعلومات التاريخية والعمليات الإدراكية واللغوية.

ولكي نحدد معنى هذا الوعي، يمكن النظر إلى شرح أستاذ التاريخ والفلسفة الألماني يورن روسن (نقلاً عن مقال «الوعي التاريخي: النظرية والممارسة» لـ آنا كلارك وكارلا بيك) بأنه «يفسر الماضي بغرض فهم الحاضر واستشراف المستقبل»، ويشمل كل طرق التفكير في الماضي من «الدراسات التاريخية» إلى «استخدام ووظيفة التاريخ في الحياة الخاصة والعامة». ونلاحظ أثر ذلك عمليًا في فهم متعدد الأزمنة للذات يتجسد في شعار «عزنا بطبعنا»، الذي من معانيه «الانتماء الغريزي»؛ ذلك الشعور المتجذر في النفس، والذي لا يكتسب معناه واتجاهه -في تقديري- إلا عبر الوعي التاريخي. فالوعي يتطلب أولًا القدرة على إدراك الماضي، وهو ما يعني ضمنًا التوجه نحو الداخل/الذات. وتبدأ هذه العملية على المستوى الفردي، ثم تتحول إلى فعل جماعي، مما يضع نمو الوعي التاريخي وتطوره ضمن مجالات الفلسفة وعلم النفس والتأمل الذاتي وفينومينولوجيا الذاكرة. وهذا قد يفسر كيف تكون تعابير مثل «الحمد لله على نعمة » و«عزنا بطبعنا» بمثابة صياغة أخلاقية لمسؤولية مشبعة بالذاكرة التاريخية. فالدولة لا تمتلك ذاكرة ذاتية، بل تبنى ذاكرتها عبر السرديات الوطنية والمؤسسات التعليمية والثقافية والمواقع الأثرية والمتاحف والمناسبات الوطنية. «من دون ذاكرة للماضي، لا وجود للتاريخ» _ بول ريكور في كتابه «الذاكرة والتاريخ والنسيان». تبدأ قصة الوحدة الحديثة في الجزيرة العربية مع ظهور الدولة السعودية في القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي. وعلى الرغم من أنها كانت تاريخيًا تذهب وتعود، فإنها ترسخت في نهاية المطاف بنجاح مع توحيد المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز عام 1351هـ/1932؛ ونتج عنها وهوية وانتماء راسخين. لقد كانت مهمة شاقة في ظل الانقسام والتشتت، واستثنائية بإنجازاتها وبصمود قائدها وثقة الشعب بمشروعه. ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت معارك الوطن تأسيسية وعسكرية، ومنذ النصف الثاني أصبحت ثقافية وفكرية وتنموية على كافة المستويات. وبينما كانت الأولى «التحصين الداخلي» وإفشال مخططات الأعداء والقوى الاستعمارية، أصبحت الثانية مع الذات، لتكريم التضحيات. لقد أصبحت في ذاكرة السعوديين محفورةً وفي مسيرتهم دليلًا؛ إذ جعلتهم يستشعرون قيمة أرضهم وتماسكهم وإرثهم والأعمق من ذلك استكشاف إمكانياتهم، وبالتالي دورهم. وبالفهم على هذا النحو، يعزز الوعي التاريخي مفاهيم الانتماء والوحدة وفي الوقت ذاته يرسخ المسؤولية. إن وعي السعوديين بتاريخهم وبمسؤولية أمن وطنهم ورؤيته في مكانة متقدمة، ليس مختزلًا في مناسبة بعينها، فهو يتجلى في ممارساتهم اليومية من مواقف ومشاعر وإنجازات؛ وأينما كانوا. فلقد شاهدته عن كثب، على سبيل المثال، في روح الفعاليات واللقاءات التي ينظمها نادي الطلبة في مدينة برايتون البريطانية، في خضم مهمة العمل التطوعي النبيلة. تغيرت الأسماء، لكن الرسالة راسخة: خدمة أبناء الوطن، وإبراز تاريخ وهوية وإنجازات بلادنا بما في ذلك التمثيل الوطني المشرف في المحافل العلمية. والرسالة ذاتها، بطبيعة الحال، توجه مهام جميع بقية الأندية الطلابية في بلد الابتعاث، ويحملها المبتعثون عمومًا، وتدعمها بفاعلية الملحقية الثقافية والسفارة. وعلى هذا الأساس، من الآمن القول إن الهوية والانتماء لم يتعمقا بسبب رفاهية العصر (دورها ثانوي) فحسب، وإنما ثمرة الثقة المتبادلة بين الشعب وقيادته، وإرث الجزيرة العربية «العظيم»: حضارتها وثقافتها وقيمها وكذلك احتضان الأماكن المقدسة وشرف مسؤولياتها. فقد تم إنعاش أو بعث «المعنى» و«الوعي» لهذا الإرث في الذاكرة الوطنية، بوضوح وبشكل لا لبس فيه، من خلال المشروع الوطني الكبير منذ توحيد المملكة حتى وقتنا المعاصر. وبالفهم على هذا النحو، تبرز قوة التاريخ والوعي به في تشكيل الحاضر وتذكرنا بدوره في عالم يشهد تقلبات لا تكاد تعرف السكون، فضلًا عن قيمته في تفنيد «السردية الهدامة» التي ينتهجها الأعداء. إن التفاعل مع اليوم الوطني هو قصة الذاكرة والتاريخ، لكنه قصة السرد والوعي؛ إنه قصة التماسك المجتمعي، لكنه قصة التمثيل البناء؛ إنه تسليط الضوء على تاريخ عظيم لوطن نشأ ونهض بسواعد وبفكر أبنائه وبموارده.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا