عرب وعالم / السعودية / عكاظ

إنها الهرمونات يا سيد كافكا !

سيكون هذا آخر ما أكتبه إليكِ، يقولها كافكا بطعم الفراق المُر لحبيبته ميلينا:
«وداعاً يا عظيمتي، كان بإمكاننا إصلاح الأمور
أن تكوني أنتِ الطّرف الأفضل وتتنازلي قليلاً!
كما كنتُ أفعل أنا!
كان من الممكن أن تستمرّي بقول صباح الخير وأنا بدوري انتظر الصّباح إلى أن تقوليها وتودّعينني ليلاً، وأغلق الكون بعدك
ما أشعر به ليس حبّاً يا ميلينا!
أو قد يكون حبّاً ولكن ليس كما تتخيّلينه
إنّه أكبر من ذلك!
أنا الآن من دون روح من دون إحساس
ومن دون أيّ شيء!
لم أشعر يوماً أنّني بحاجة أحد كما أشعر الآن
صدّقيني أنتِ روعة الأشياء البائسة!
وانتِ الحياة لكلّ جذوري اليابسة!
أفتقدكِ كثيراً، أكثر ممّا تخيّلت بأنّ الفقد مؤلم!
ما الفائدة من إغلاقكِ للأبواب
إن كانت روحي عالقة على جدران بيتك
أنتِ الآن تزيدين البعد شوقاً أفتقدك
وداعاً يا عظيمتي».
تبدأ الحكاية حيث تنتهي، وتنتهي حيث يبدأ الألم تلك هي جدلية العاشق الذي لا يكتب رسائله ليُرسلها، بل ليُخلّد وجعه على الورق.
هكذا كان حال فرانز كافكا، حين كتب إلى حبيبته ميلينا آخر رسائله،
لم يكن يودّعها بقدر ما كان يودّع نفسه فيها. كانت الكلمات طريقته الوحيدة ليبقى حيّاً، لتظلّ روحه عالقةً بين الحبر واللهفة.
في رسالته، يتكشّف كافكا عارياً من كبريائه، خالياً من القناع الذي كان يرتديه أمام العالم.
رسالة وداع تختزن ألف حسرةٍ وسؤال!
ليست مجرّد ماضٍ، بل جرح مفتوح على احتمالاتٍ ضاعت.
كأنّ كافكا يعيد ترتيب الأقدار في ذهنه، يراجع النهايات التي كان يمكن أن تُكتب بطريقةٍ أقلّ وجعاً لو أنّ ميلينا تنازلت قليلاً.
لكنها لم تفعل، وربما لأنها مثل كثير من العاشقات أرادت رجلاً يقدر المسافة، لا رجلاً يختنق في القرب.
يبدو في كلماته كمن يكلّم ظلّاً لا يسمعه..
كان من الممكن أن تستمري بقول صباح الخير. وأنا بدوري أنتظر الصباح إلى أن تقوليها..
انتظار يحوّل الصباح إلى ٍ روحي كأنّ ميلينا شمس لا تشرق إلا حين تنطق، وكأنّ العالم بأسره كان معلقاً على حروفها وحين تغيب، يغلق الكون بعدك..
عبارة تهزّ القلب، ليست استعارة بقدر ما هي تجربة وجودية..
كلّ من أحبّ بصدقٍ يعرف أن غياب من يحبّه يشبه انطفاء الكون.
فالحبّ بالنسبة له وللصادقين حباً ليس عاطفة، بل حالة كونية، نوع من الوعي، امتدادٌ للذات نحو الآخر حتى الذوبان.
هو لا يحبّها كامرأة، بل كوجودٍ يستكمل به نقصه الأبدي.
فحين يقول أنا الآن من دون روح، من دون إحساس، ومن دون أيّ شيء لا، يتحدث عن الفقد، بل عن الفناء بعد التجربة.
كأنّ ميلينا لم تكن جزءاً من حياته، بل كانت حياته ذاتها.
تبلغ الرسالة ذروتها حين يخاطبها:
صدّقيني يا ميلينا، أنتِ روعة الأشياء البائسة، وأنتِ الحياة لكلّ جذوري اليابسة!
تلك هي المعادلة الكافكاوية التي لا يفهمها إلا من جرّب الحبّ في أقصى درجاته الوجودية.. أن تجتمع البهجة والبؤس في شخصٍ واحد، أن يكون الحبيب هو الجرح، والبلسم معاً.
حبّ يولد في الألم، ويتغذّى عليه، حتى يصبح الفقد شرطاً للاستمرار،
كما لو أن العاشق لا يعيش إلا حين يتألم.
ثم تأتي الخاتمة الموجعة: ما الفائدة من إغلاقك للأبواب، إن كانت روحي عالقة على جدران بيتك..
كم هي عميقة هذه الصورة!
إنه لا يتحدث عن الأبواب المادية، بل عن جدران الذاكرة.
فمن نحبه لا يسكن بيتنا، بل يسكن فينا.
وحين نغلق الأبواب، تبقى أرواحهم معلّقة في الزوايا، في رائحة المكان، في صدى الكلمات القديمة.
كافكا هنا يعلن استسلامه، لا لأنه تعب من الحب، بل لأنه أدرك استحالته.
أعدك سيكون هذا آخر ما أكتبه إليكِ وداعاً يا عظيمتي..
الوداع ليس نهاية، بل بداية مرحلةٍ من الحنين الصامت.
فالعاشق الحقيقي لا ينفصل أبداً، بل يتحوّل حُبّه إلى ذاكرةٍ أبدية، إلى حضورٍ يسكن الغياب.
تتجلّى مأساة كافكا في أنه لم يجد في العالم مكاناً يتّسع له، حتى في الحبّ.
ميلينا ألهمته أجمل رسائله لم تكن مجرّد امرأةٍ في حياته، بل كانت مرآته، ووجهه الآخر، النقطة التي يلتقي عندها الحبّ بالموت.
رسالتة ليست مروراً على كلماتٍ بين حبيبين، بل عبورٌ في ممرٍّ روحيّ يلامس جوهر الإنسان.
تذكّرنا أن الحبّ، في أرقى صوره، ليس امتلاكاً بل انتماء، وليس وعداً بالاستمرار، بل اعترافٌ بالعجز عن الفكاك.
كافكا، في وداعه لميلينا، ودّع كلّ عاشقٍ صدّق أن الكلمات قادرة على إنقاذ ما لم يستطع القلب احتماله.
كتب من عمق جرحه، فأنطق فينا أوجاعنا الصامتة وحبنا المفقود وعشقنا الممنوع..
بعد قرنٍ من رحيله، نقرأ كلماته بدهشة، كما لو كانت رسالته الأخيرة موجّهة إلينا جميعاً.. نحن الذين نحاول أن نُصلح الأمور، متأخرين دائماً، كما كان كافكا.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا