حضرت قبل أيام برنامجًا تدريبيًا عن الإدارة الاحترافية للمراسم قدّمه الدكتور سعد العتيبي، وكانت تلك الأيام الخمسة كفيلة بأن تفتح أمامي أفقًا مختلفًا للتفكير في معنى «المراسم» ودورها الحقيقي في بناء الصورة الذهنية للجهات وللمؤسسات، بل وفي تشكيل ملامح القوة الناعمة للوطن. كثيرون ينظرون إلى المراسم على أنها مجرد «إجراءات استقبال» أو «تنظيم بروتوكولي» يتكرر في كل مناسبة، لكن الحقيقة أعمق بكثير. فالمراسم حين تُدار باحتراف ووعي، تتحوّل إلى لغة صامتة للذوق والهوية، تعبّر عن قيم المؤسسة قبل أن تنطقها، وتترك في وعي الآخرين انطباعًا يسبق الخطاب الرسمي ويدوم بعده. وأرى أن الاحتراف في المراسم ليس في ترتيب المقاعد أو تنسيق الورود، بل في إدارة المشاعر والانطباعات؛ في جعل الزائر يشعر أنه مُرحّب به بصدق، وأن كل تفصيل من حوله يعبّر عن احترامه وتقديره، هذه المساحة الهادئة بين الشكل والمضمون هي ما تصنع الفرق بين العادي والراقي، وبين المؤدي والمتقن. وإذا تأملنا الصورة الكبرى، سنجد أن المراسم تمثل أحد وجوه القوة الناعمة التي تمتلكها الدول المتقدمة، فكما تؤثر الفنون والثقافة والتعليم في تشكيل صورة الوطن خارجيًا، فإن المراسم المؤسسية الراقية تمارس دورًا مشابهًا على المستوى الداخلي والخارجي، بصمتٍ جميل لا يرفع الصوت لكنه يترك الأثر. إننا اليوم بحاجة إلى توسيع مفهوم المراسم، لتغدو ثقافة مؤسسية عامة لا تقتصر على المناسبات الرسمية، فنحن نحتاج مراسم في التعليم تُعلّم الأجيال احترام النظام والوقت ومراسم في المستشفيات تُعبّر عن إنسانية الخدمة ومراسم في الإعلام تُجيد تقديم الرسالة بلياقة وجاذبية ومراسم في العمل اليومي تُظهر احترام الإنسان لزميله وللمكان الذي يعمل فيه وغيرها من التفاصيل والأماكن. وفي المشهد الاقتصادي، نحتاج بقوة إلى مراسم استثمارية احترافية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى؛ فكل لقاء اقتصادي، وكل توقيع اتفاقية، وكل استقبال لوفد مستثمر، هو في جوهره مشهد من مشاهد القوة الناعمة للوطن؛ فالطريقة التي يُستقبل بها المستثمر، وكيف تُقدَّم له بيئة الاستثمار برقيّ وتنظيم، وكيف يُشعر بأن التعامل معه ليس معاملة مالية فحسب، بل تقدير لعلاقته بالوطن.. كلها رسائل صامتة تصنع ثقة وتفتح أبواب فرص جديدة، فالمراسم في الاستثمار هي جزء من المناخ الاستثماري نفسه، لأنها تترجم الاحترام والموثوقية والاحتراف، وكلها عناصر تسهم في بناء الثقة وجذب الشركاء الدوليين من المستثمرين. مع هذا كله، يصبح الاحتراف في المراسم سلوكًا ووعيًا، لا مهمة بروتوكولية، ويصبح الانضباط والذوق والرقي جزءًا من صورة الوطن في أعين أبنائه قبل غيرهم. إن القوة الناعمة تُبنى بتراكم التفاصيل الصغيرة التي تصنع انطباعًا عميقًا. والمراسم الاحترافية حين تُدار بالعقل والقلب معًا ستكون حتمًا أحد أجمل تجليات تلك القوة. ختامًا.. الاحتراف في المراسم ليس فنّ استقبال، بل فنّ تمثيل؛ تمثيل لروح الوطن وذوقه وحضوره في تفاصيل صغيرة تصنع أثرًا كبيرًا وقوة ناعمة. أخبار ذات صلة