ربما صادفت يومًا سيارة تنعطف فجأة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بينما يبدو سائقها مركّزًا فقط بتحقيق انعطاف آمن لنفسه، متجاهلًا ما قد يسبّبه من أذى أو ارتباك للمحيطين به. هذا التركيز الضيّق يجعله يغفل عن عوامل مهمة تجري حوله. في علم الإدارة والسلوك التنظيمي، يُعرف هذا النمط بـ«الإدراك الانتقائي»، فما هو؟ وما آثاره السلبية؟ الإدراك الانتقائي هو ميل الفرد إلى تركيز انتباهه على ما ينسجم مع مصالحه ومعتقداته، متجاهلًا - عن قصد أو دون وعي - كل ما يخالفها. فالعقل لا يستطيع استيعاب كل ما يدور حوله دفعة واحدة، بل ينتقي ما يتوافق مع اهتماماته ويتجاهل الباقي. لهذا تستمر الصور النمطية لدينا، لأننا نرى ما يؤكدها ونتغافل عما يهدمها، تمامًا كما فعل سائق السيارة. فهل تعتقد أن هذا السلوك سليم؟ على الأرجح ستكون إجابتك «لا»، لأنك أدركت للتو أن تجاهل السياق والمحيط هو إدراك انتقائي، وهو سلوك غير فعّال. فما انعكاساته السلبية في بيئة العمل والمجتمع؟ أولى العواقب السلبية للإدراك الانتقائي، الإخلال بصناعة القرار وتعزيز الأحكام النمطية. ففي بيئة العمل، يركّز الموظف على جزء محدود من الواقع، مستندًا إلى معلومات غير كاملة وهي تتوافق مع قناعاته، متجاهلًا معلومات قد تكون أكثر أهمية، مما يخلق ما يُعرف بـ «رؤية النفق» ويؤدي إلى صناعة قرارات غير موضوعية. أما مجتمعيًا، فإن الإدراك الانتقائي قد يؤدي إلى تعزيز الانحيازات بين أفراد المجتمع وتكوين صور نمطية عن مجموعات معينة من المجتمع. حيث نلاحظ فقط السلوكيات الفردية التي تؤيد انحيازاتنا وقناعاتنا، ثم نصدر أحكامًا نمطية عن هؤلاء الأفراد ويتم تعميمها على المجموعات، وهذا يؤدي إلى تفاقم التمييز الاجتماعي والتقسيمات المجتمعية. ثانيًا، تصاعد الصراعات وسوء التواصل. في بيئة العمل، يضيّق الإدراك الانتقائي أفق الفهم زاوية الرؤية لدى الموظفين والقادة، حيث يركّز كل طرف بما يؤيد رأيه أو يخدم مصلحته، ويتجاهل ما يخالف ذلك. هذا الانحياز يُشوّه تفسير النوايا؛ فترى ملاحظات الزملاء تُفسر كانتقاص وقرارات القادة تُفهم كتهديد، رغم أنها لا تحمل هذا القصد. وتتراكم الفجوات في الفهم، فتتفاقم النزاعات نتيجة تفسيرات خاطئة وسلوكيات تُحمَّل أكثر مما تحتمل. أما مجتمعيًا، فيُضعف الإدراك الانتقائي الاستماع الفعّال بين أفراد المجتمع، إذ يصغي كل طرف لما يؤكد قناعاته فقط، مما يُشوّه الرسائل المتبادلة ويحول دون بناء حوار حقيقي، فيسود سوء الفهم وتتعطل جسور التواصل. ثالثًا، مقاومة التغيير وعرقلة الإصلاح. في بيئة العمل، يُضعف الإدراك الانتقائي انفتاح الأفراد على الأفكار الجديدة، حيث يتمسّك الموظفون والقادة بالأساليب المألوفة ويتجاهلون الفرص التي تقع خارج نطاق رؤيتهم المعتادة. هذا الجمود يُعطّل التطوير ويُعيق الابتكار، مما يُقوّض القدرة التنافسية للمنظمة. أما على مستوى المجتمع، فالإدراك الانتقائي يُغذي تمسك أفراد المجتمع بالأفكار القديمة، والمعتقدات التقليدية، ورفض التجديد، مما يؤدي إلى مقاومة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ويُبطئ من وتيرة التقدّم والنهوض بالمجتمع. تلخيصًا لما سبق، يشكّل الإدراك الانتقائي انحرافًا عن الحقيقة، ويولّد انقسامات ويغذّي الصراعات، ويكبح الابتكار. لذا، فإن الوعي بمخاطره ضرورة لا رفاهية، لبناء بيئة عمل أكثر عدلًا، ومجتمع أكثر وعيًا. فالإدراك الانتقائي ليس خللًا معرفيًا أو سلوكيًا فحسب، بل عائق تنموي يُهدّد إمكانات الدولة للتقدّم. ولأن الأوطان لا تُبنى بعقول منغلقة، فإن مسؤوليتك - كفرد ومؤسسة - أن تتجاوز هذا القيد، لنصنع قرارات أذكى وأكثر عدالة، ونخدم وطننا السعودي ونُسهم في رفع تنافسيته، ونقود مجتمعًا مزدهرًا نحو مستقبل أفضل. أخبار ذات صلة