في عامٍ يزدحم بالعروض المبهرة والمؤثرات البصرية الطاغية، جاء عرض جون تاكاهاشي لدار أندركوفر Undercover لربيع وصيف 2026 مختلفًا تمامًا، كأنّه تنفّسٌ عميق وسط ضوضاء الموضة، لم يكن العرض مجرّد حدث موسمي، بل تأمّل هادئ في ذاكرة الدار الممتدة على مدى خمسةٍ وثلاثين عامًا، واستحضار واعٍ لماضيها الإبداعي من خلال عدسة الحاضر.

أعاد تاكاهاشي صياغة العلاقة بين الموضة والوقت، بين الذكرى والتجريب، في عرضٍ أقرب إلى الطقس الفني منه إلى الاستعراض.

بين الذكرى والتجدد: لحظة تأمل بعد 35 عامًا

1. أراد تاكاهاشي أن يحتفل بالذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس Undercover لا عبر الضوضاء، بل عبر الصمت المدروس. نقل الحدث من مدرج العرض إلى صالة عرض صغيرة هادئة، استبدل فيها أضواء المنصة بأكواب الإسبريسو، وموسيقى العروض بضجيج المدينة الخافت في الخلفية، بدا الأمر كما لو أنّه يدعو الجمهور إلى الجلوس معه حول طاولة صغيرة، لا ليُبهَروا، بل ليستمعوا.
2. جاء هذا العرض كتتمة سينمائية لمجموعة خريف وشتاء 2014 التي أعادت إحياء مجموعة 2004 الشهيرة، لكنه هذه المرة لم يكن استرجاعًا حرفيًا، بل تأملًا في مرور الزمن، وكيف تتغير العلاقة بين المصمم وأفكاره السابقة.
3. وصف تاكاهاشي العرض بأنه "لحظة استراحة بين الفصول"، حيث تُدرَس تطورات القصة بدلًا من مشاهدتها فقط، كانت المجموعة بمثابة سردٍ بصري لرحلة النضج الفني، إذ مزج بين الرمزية السريالية القديمة والحس العملي المعاصر الذي اكتسبه على مرّ السنين.

القطعة المحورية: الفستان الأسود كرمزٍ للأسطورة

1. في وسط القاعة، وقف فستان أسود مذهل كتمثالٍ نُحِت من الظلال. تموجت حاشيته بموجات بيضاء خفيفة، تُذكر بأمواج البحر تحت ضوء القمر، زُيِّن بزخارف مبطّنة من تصميم الفنانة آن فاليري دوبوند، التي عادت للتعاون مع تاكاهاشي بعد عقدين من الزمن. مثّل ذلك الفستان محور العرض، ليس فقط لأنه قطعة استثنائية بصريًا، بل لأنه جسرٌ بين الماضي والحاضر.
2. زخارف دوبوند لم تكن مجرد تفاصيل زخرفية، بل تعبير تشريحي سريالي، أعضاء داخلية من لبادٍ وساتان مخيط بإتقان، تمتد من الرئتين حتى الأمعاء، في تصويرٍ صادم للجمال الداخلي والخارجي في آنٍ واحد. وعلى ظهر الفستان، امتد حبل شوكي محشو بأزرار بحرية ذهبية، كما لو أن الجسد يتحول إلى آلةٍ ساحرة.
3. وفي الأسفل، على قدمي العارضة، ظهرت تفاصيل سريالية مذهلة: ضفدع يقف على أحد الحذاءين، وجمجمة حيوان على الآخر، وكلاهما محاط بأوراق شجر محشوة، في مزج بين الحياة والموت، الطبيعة والخيال.
4. كان هذا العمل بمثابة تذكيرٍ قوي بقدرة تاكاهاشي على تحويل الغرابة إلى شعر، وعلى إعادة تعريف الجمال من خلال ما هو ناقص أو مشوَّه ظاهريًا، لم تكن تلك السريالية للصدمة، بل للتفكير، دعوة للتأمل في هشاشة الجسد واستمرارية الخلق.

اللعب بالبنية والتفكيك: خياطة خارج القواعد

1. أحاطت بالقطعة المركزية مجموعة من التصاميم التي وسّعت لغة العرض في اتجاهٍ أكثر مرحًا وتفكيكًا. ظهرت الحواف المتموجة التي تشتهر بها Undercover كإيقاعات بصرية مكرّرة، بينما بدت القمصان والسترات وكأنها تفكّك نفسها من الداخل: أزرارها غير مصفوفة، وخياطتها معكوسة، وأحيانًا تربطها أحزمة عشوائية تُخِلّ بالنظام فقط لتصنع جمالًا من الفوضى.
2. برزت سترة صوفية منقوشة بقلب بارز في منتصف الصدر كرمز للعاطفة البشرية التي تتخلل عالم تاكاهاشي الصناعي، إلى جانبها، شوهد ثوب هجين يجمع بين كارديغان وتيشيرت بريتون وبنطال عسكري، خليطٌ يبدو مستحيلاً لكنه متجانس في عوالم أندر كفر، حيث التناقض هو النظام الوحيد.
3. حتى القطع الرياضية البسيطة، مثل شورتات النايلون باللونين القرمزي والأسود، جاءت بتصاميم غير متوقعة، خطوط مائلة، طبقات شبه شفافة، وحركة انسيابية تشي بتوازنٍ بين الطاقة والجنون.

شعار جديد: الملاك ذو الثلاثة أذرع

1. ضمن هذا العالم المتشابك من الرموز، قدّم تاكاهاشي شعارًا جديدًا يُجسّد فلسفة أندر كفر المستمرة في تحدي المفهوم الواحد، ملاك بثلاثة أذرع ورأسين.
2. ظهر الشعار مطرزًا بخيوط معدنية على سترات ومعاطف، وأحيانًا مطبوعًا على القمصان بأسلوبٍ تجريدي.
3. يمثل هذا الملاك، بحسب تاكاهاشي مثل "الازدواجية الدائمة في الإنسان، بين الخلق والهدم، الطهارة والفوضى، الجمال والرعب".

كان ذلك تجسيدًا بصريًا لمفهوم طالما تبنّته العلامة: التحول المستمر، والبحث عن المعنى في التناقض.

بين الحرفية والتمرد: الإكسسوارات كلغة رمزية

1. لم تكن الإكسسوارات مجرد إضافات جمالية، بل عناصر سردية بحد ذاتها، أحذية رعاة البقر الجلدية المصقولة بدت مألوفة للوهلة الأولى، لكنها كشفت عند النظر عن قرب عن سيقان متعرّجة بتصميم غير منتظم، كأنها تذوب أو تتموّج مع الحركة.
2. أما الحقائب، فجاءت بهياكل غير تقليدية، بعضها بأذرع معدنية، وبعضها الآخر بأغطية شفافة تُظهر محتوياتها، في إشارة إلى مفهوم الشفافية الذي يمرّ كخيطٍ رمزي في أعمال تاكاهاشي الأخيرة.
3. كما استعان المصمم بزخارف تُحاكي بين الحنين والمستقبلية، سلاسل معدنية تحمل دمى قماشية صغيرة، وأساور تحاكي العظام، وأقراط تُذكّر بقطع مختبرية. كان المزج بين الرقة والغرابة جزءًا من هوية المجموعة، مُؤكِّدًا مرة أخرى على قدرة Undercover على البقاء في منطقةٍ رمادية بين الفن والموضة.

الموضة كقصة سينمائية: مقدمة لفيلم “Undercover”

1. اختُتم العرض بإعلانٍ مفاجئ منح المجموعة بعدًا جديدًا: ما قدّمه تاكاهاشي في هذا الموسم هو المقدمة البصرية لفيلم يحمل اسم العلامة “Undercover”، من المقرر عرضه في الشهر التالي.
2. لم يُقدَّم العرض إذًا كحدث مستقل، بل كـ"فصلٍ تمهيدي" في عملٍ أكبر. هذا التوجه لم يكن غريبًا على تاكاهاشي الذي طالما عامل الموضة كوسيطٍ روائي، يكتب بالملابس كما يكتب المخرج بالكاميرا.

من خلال هذه الخطوة، يُعيد تاكاهاشي طرح سؤالٍ جوهري:

• هل الموضة مجرد منتج بصري مؤقت، أم شكلٌ من أشكال السرد البشري؟
• بالنسبة له، يبدو الجواب واضحًا، الملابس هي لغة تُروى بها القصص، وحين ترتديها، فإنك تُصبح جزءًا منها.

بين الفن والوعي

في نهاية المطاف، لم تكن مجموعة ربيع وصيف 2026 مجرّد عرض أزياء؛ كانت تجربة حسية وعقلية، استعادت الماضي لتتأمل الحاضر، وقدّمت نموذجًا نادرًا لمصممٍ يجرؤ على التوقف في زمنٍ لا يعرف التوقف:

• اختار تاكاهاشي أن يحتفل بالذكرى الخامسة والثلاثين للعلامة لا بالتصفيق، بل بالهدوء، لا بالعرض، بل بالتأمل.
• وبينما يستعد لإطلاق فيلمه القادم، يبدو أن الفصل الجديد من أسطورة Undercover قد بدأ بالفعل.
• ليس كضوءٍ ساطعٍ في عالم الموضة، بل كوميضٍ داخليٍّ صامت، يعكس فلسفة تاكاهاشي في أن الجمال الحقيقي لا يُرى، بل يُشعر به.