كتب : جمال عبد الناصر
الأربعاء، 01 أكتوبر 2025 02:00 مالمسرح مطرقة للذاكرة ولوحة حيّة..
في زمن تحاول فيه الخطابات الزائفة أن تُلبس الجريمة ثوب السلام، يأتي المسرح كنصل حاد يمزق ستائر النسيان، حيث تذوب الحدود بين الحياة والفن، ويقف الجسد والذاكرة وجهًا لوجه، لتُستحضر الحقيقة في أنقى صورها وأكثرها قسوة، وهنا، لا يصبح المسرح مكانًا للتمثيل بقدر ما يغدو ساحة للشهادة، وصوتًا يخرج من عمق الجرح ليصير نداءً يتردد في آذان الحاضر والمستقبل.
" فاطمة الهواري لا تصالح " شاهدته ضمن عروض مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة في مسرح السامر، وهذا العرض في أعمق تجلياته، ليس مجرد محاكاة للحياة، بل هو فعل مقاومة، وإعادة بناء للذاكرة الجماعية التي تحاول قوى القهر تفتيتها، وقد اختار غنام أن يعيد للمسرح وظيفته البريختية الأولى، وأن يكسر الإيهام لا ليُعلم، بل ليُشعل شرارة الوعي في العقل والوجدان، جاعلاً من الخشبة فضاءً أدبياً حيث الشعر يلتقي بالحقيقة القاسية، ليكون بمثابة "المونودراما الجماعية" التي تستحضر الصوت الفلسطيني بوصفه الشاهد الوحيد على حقيقة التاريخ.

غنام غنام واحمد العمري في عرض فاطمة الهواري لا تصالح
عرض " فاطمة الهواري لا تُصالح" يضعنا جميعا أمام مأساة ليست شخصية ولا محلية، بل هي جرح جماعي مفتوح، يصرخ في وجه العالم، فالذاكرة لا تُباع، والضحية لا تُصافح جلادها، ومنذ اللحظة الأولى يدرك المتلقي أنه لا يشاهد مسرحية فحسب، بل يقف أمام وثيقة مقاومة تُكتب بالحروف والصوت والصمت معًا، فالنص الذي صاغه غنام غنام يتنقل بين زمنين متباعدين، زمن النكبة وزمن المواجهة بعد عقود، لكنه في الحقيقة يوحدهما في لحظة واحدة لا تنتهي، لحظة الفقد والرفض والكرامة، إذن نحن أمام نص مكثف، مفعم بالتوتر، أقرب إلى شهادة تنبض أكثر مما هو دراما تتدفق، إذ يجعل من فاطمة لسان حال ذاكرة كاملة، ومن القاتل آبي ناتان صورة لزيف سردية الاحتلال التي تحاول أن تتجمّل برداء السلام بعد أن اقترفت المجزرة، فالنص لا يقف عند حد التوثيق، بل يزرع داخل كل مشهد شحنة شعرية قادرة على أن تحوّل الخشبة إلى مرآة للوعي الجمعي.
البساطة المشهدية وعمق الدلالة..في إخراجه، برع غنام غنام في تحويل النص إلى فضاء حيّ يتجاوز حدود الحكاية، وكسر الحائط الرابع منذ البداية ليضع الجمهور في قلب السؤال، لا في مقاعد المتفرجين، وأدار ممثليه بوعيٍ يوازن بين الحكي والتمثيل، وبين الاستدعاء الواقعي والرمزية البصرية، وترك الخشبة شبه عارية، لكنها لم تبدُ فارغة قط؛ فالكرسي المتحرك كان عرشًا للمقاومة أكثر مما كان علامة على العجز، والكوفيّة السوداء علمًا للهوية أكثر مما كانت قطعة قماش، فعبقرية غنام ظهرت في قدرته على جعل البساطة المشهدية طريقًا للامتلاء، وعلى تحويل الجسد المرهق إلى أيقونة للثبات، ليعيد إلى المسرح جوهره الأول: أن يكون صرخة، وأن يكون موقفًا.
الأداء التمثيلي جاء متفردًا، فأماني بلعج جسّدت فاطمة بروحٍ تتنقل بين الفتاة الحلم والمرأة الشاهدة، بصوتها المتهدج وحضورها المكين، حتى بدت وكأنها تستحضر ذاكرة وطن بأكمله في نظراتها، أما أحمد العمري حمل شخصية آبي ناتان إلى منطقة دقيقة، حيث يتقاطع الندم المزعوم مع إرث الدم، فكشف هشاشة السردية الإسرائيلية التي تحاول أن تساوي بين الضحية والجلاد، أما الطيف الحارس – رمزي الشهيد – فقد جاء ليؤكد أن الغائبين لم يغيبوا، بل يحضرون كصوتٍ دائم في وجدان من بقوا.

فاطمة الهواري لا تصالح
الموسيقى التي استهلت العرض بأغانٍ فلسطينية عتيقة جعلت الذاكرة حاضرة منذ اللحظة الأولى، قبل أن يتداخل صوت فيروز ليمنح الحكاية بعدًا إنسانيًا رحبًا، وكأن فلسطين هنا ليست جغرافيا فحسب بل وجدان كوني، ومع دخول موسيقى ماهر الحلو، ارتفع الإيقاع إلى مستوى أكثر توترًا وتجريدًا، فصارت النغمة والصمت شريكين للحوار والجسد.
أما الإضاءة فقد تشكّلت كسكين ضوء حاد، تتنقل بين العتمة والوهج، لتذكّر بأن المسرح هنا ليس فرجة بصرية بل ترجمة حسية للدم والذاكرة، وكل تفصيلة في العرض كانت جزءًا من معمار دلالي متكامل: الكرسي المتحرك الذي يحوّل العجز إلى قوة، الفضاء الفارغ الذي يمنح الخيال امتدادًا، الملابس السوداء التي تُعلن الحداد والهوية معًا، وحضور الطيف الذي يجعل الموت حيًا في كل لحظة، وهذه العناصر لا تتضافر عرضًا، بل تنسج معًا نصًا ثانيًا يتجاوز اللغة، نصًا بصريًا وسمعيًا يضاعف من وقع الكلمة على الروح.
- من النكبة إلى الآن: المسرح شاهد لا يصالح
وفي النهاية، لا يمكن النظر إلى " فاطمة الهواري لا تُصالح" إلا بوصفه عملًا يتجاوز حدود المسرحية إلى مستوى الوثيقة الإنسانية والسياسية والشعرية، وغنام غنام قدّم نصًا وإخراجًا ليذكرنا بأن المسرح ليس محاكاة للواقع بل صراخٌ فيه، وأن الفن لا يكتفي بأن يُطرب، بل عليه أن يُربك ويُوقظ، ويبقى السؤال الذي يواجه به العرض جمهوره حاضرًا: هل يمكن أن يولد سلام على أرض لم تُرفع عنها يد القاتل؟ والإجابة تظل في صوت فاطمة الذي يتردّد كحكم لا يقبل الاستئناف: ( لا تُصالح ) .
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة اليوم السابع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من اليوم السابع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.