اقتصاد / صحيفة الخليج

عندما اشتبك المنظّرون الاقتصاديون

د. عبد العظيم حنفي *

بحلول أواسط السبعينيات اشتبك المنظّرون في ما يشبه الحرب الأهلية، سنستعيد للحظة بداية هذا العداء: كانت عشية انفصال لجنة «كولز»، في أوائل الخمسينيات، عن جامعة شيكاجو، ولا توجد حادثة يمكن أن تبين فحوى ذلك الوقت أفضل من واقعة الاختبارات الشفوية لعام 1952، التي خاضها هاري ماركو فيتز ذو الخمسة والعشرين ربيعاً، حتى يتسنى له الحصول على درجة الدكتوراه تحت إشراف جاكوب مارشاك. وكان هاري بدأ في التقصي عن أسباب التنوع المالي، كما بدأ في تحليل المشكلات التي يواجهها المستثمرون عند عملهم على جمع محفظة من الأوراق المالية.
وباستخدام تقنيات البرمجة الخطية، استطاع أن يتوصل إلى طريقة حديثة صارمة لتقييم التبادل بين درجة المخاطر ومعدل العائد لاختيار محفظة تتمتع بالكفاءة، كما تسمى تلك الطريقة اليوم. كانت المشكلة مماثلة لمشكلة النظام الغذائي، التي عمل على حلها جورج دانتزينج بدرجة عالية من الدقة، ولكن تلك المشكلة كانت أكثر تعقيداً.
كان ميلتون فريدمان واحداً من أعضاء لجنة مناقشة رسالة ماركو فيتز. وبعد أن شرع الأخير في إبداء دفوعه بفترة قصيرة، قال فريدمان هاري لا أستطيع أن أرى أي عيب في الرياضيات هنا، ولكن لدي مشكلة، هي أن هذه الرسالة ليست في الاقتصاد، ولن نستطيع أن نمنحك درجة الدكتوراه في الاقتصاد على رسالة ليست في الاقتصاد. وهي ليست في الرياضيات وليست في الاقتصاد، وهي حتى ليست في إدارة الأعمال. ويعد هذا رد فعل معتاداً بدرجة كافية على مجيء المعرفة الحديثة، بشكل أكيد. ولكن في هذا اليوم في هايد بارك انتصر ماركو فيتز على فريدمان، وحصل على درجة الدكتوراه. وفي الواقع، حصل ماركو فيتز على جائزة نوبل في الاقتصاد، بعد نحو ۳۸ عاماً على خط العمل، الذي كان قد بدأه في رسالته. لكن كان فريدمان محقاً في أحد الجوانب. في المجال الذي تحدث عنه ماركو فيتز، كان يحتاج لاسم جديد الآن نطلق عليه المالية، ولكن التطبيق على مشاكل الاستثمار كان واحداً من ضمن عدد لا يعد ولا يحصى من الاحتمالات، التي قدمتها الدورات الحديثة.
كانت المالية تمثل جزءاً فقط من موجة ثانية من الحماس للأبحاث، التي كانت تتكشف في «كولز»، التي بدأت بعد ترميز الثورة الكينزية، بعدة سنوات خلال الحرب. ظهر حماس لجنة «كولز» مرة أخرى في أوائل الخمسينيات. لم يتمتع أحد بشعور حدسي للاحتمالات الحديثة أفضل من ذلك الذي تمتع به العالم الرياضي الموسوعي كينيث آرو، وكانت مصادر عبقرية «آرو»، كما هو الحال دائماً بالنسبة للعباقرة، غامضة.
كان الحماس بشأن الرياضيات الحديثة يجتاح شباب المنظرين، الذين دخلوا إلى المجال، وصل آرو إلى «كولز» كأستاذ مساعد في جامعة شيكاجو، في عام 1948 - 1949. وفي مذكراته نقل بعضاً من الأجواء التي كان فيها سيتم اكتمال العلوم الاجتماعية. وذهب ليسمع فرانكو موديليانى، وهو يجادل حول السيطرة على الإيجار. وفى الوقت الذي كان يستمع فيه لذلك الجدل، خطر له أنه إذا ما تم التعامل مع الأنواع المختلفة للإسكان على أنها سلع مختلفة، فإن معظم المستهلكين لن يقوموا إلا بشراء صفر من معظم الأنواع.
إذاً، ماذا يعنى إثبات أن توزيع الإسكان كان هو التوزيع الأفضل؟ تحير آرو، حول ما كان يعد لغزاً حقيقياً حتى انعقاد الندوة التي ألقاها صامويلسون، عندما كان يسأل الحضور عن آرائهم، وهنا أدرك من الشكل البياني الخاص به أن نظرية فصل الأشكال كثيرة الأبعاد قدمت الإجابة. كان هذا الفصل للأشكال كثيرة الأبعاد هو تصور رئيسي من نظرية المجموعات المحدبة، سوف يؤدى إلى حل كثير من المشكلات النظرية، التي واجهت مجموعة «كولز»، بمجرد توصل آرو إلى شرح اقتصادي لتلك النظرية. يمكن أن نصف الأمر بأقل ما يقال، وهو أنه كان عميقاً في مجال الأدلة السماعية. ما هي بالتحديد الأشكال كثيرة الأبعاد؟ هي أشكال ذات ثلاثة أبعاد أو أكثر. ما الذي تعمل على فصله الأشكال كثيرة الأبعاد؟ منحنى تساوي الاختيارات من منحنى التحول. وسينتج المنعطف خطاً: ويمكن فهم ميل هذا الخط على أنه السعر النسبي. اكتشف الاقتصاديون أنه يمكنهم استغلال إحدى الخواص الهندسية، التي يطلق عليها الازدواجية، بمعنى أن كل مشكلة تم التعبير عنها، وفقاً لبرنامج خطى ترتبط بشكل تام بمشكلة أخرى يطلق عليها مثناها. كان هذا ما تنبأ به بول صامويلسون، وهو أنه يمكن حل أي مشكلة اقتصادية من أي طرف لها إذا قمت بحل مشكلة التسعير، وسوف تتوصل أيضاً إلى حل لمشكلة التوزيع. في عام 1951 نشر كل من آرو وديبرو دراستين منفصلتين (وكذلك قام ليونيل ماكينزي بنشر دراسة وبطريقة منفصلة عنهما أيضاً)، مبينين كيف أن نظرية المجموعة وتحليلات التحدب يمكن استخدامها، لتحديد ما إذا كانت المعادلات التي تصف الاقتصاد يمكن حلها، وبذلك سيكون قد تم حل واحد من أعمق ألغاز الاقتصاد الحديث. وبذلك سيتم التعامل بالمتباينات بدلاً من المعادلات، ستكون هناك مسافات بدلاً من نقاط على خطوط، حدود ممكنة للإنتاج بدلاً من الأشكال البيانية الهندسية للعرض والطلب. وهكذا أدى «تسلق العمود الداعم لكرم العنب» إضافة إلى المقتضيات العملية لفترة الحرب الخاصة بجدولة السفن وتسليح الجيوش، إلى التوصل إلى أرض العجائب الرياضية في ما فوق السحاب.
* كاتب مصري وأستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية
[email protected]

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا