د. جاسم المناعي *
إن تأثير الأزمات الاقتصادية والمالية الأمريكية في بقية دول العالم لا يحتاج منا الى تأكيد. لذلك فإننا نجد هذا المثل «عندما تعطس أمريكا يصاب العالم بالزكام» معبراً جداً وغير مبالغ فيه وذلك على صعيد عدة مجالات تتأثر فيها اقتصادات العالم بما يحدث في أمريكا. إن تقلبات الأسواق المالية الأمريكية تنعكس مباشرة على البورصات العالمية. كما أن الأزمات المالية، التي مرت بها أمريكا كانت لها أصداء كبيرة وواسعة على كثير من اقتصادات العالم. وإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فلا بد من أخذ الحيطة والحذر من أية بوادر مشاكل أو أزمات، قد تواجه أمريكا، حتى وإن كان ذلك ليس له علاقة مباشرة بأوضاعنا الاقتصادية. ووفقاً للتجارب السابقة وآخرها أزمة الرهن العقاري، عام 2008، فإن العالم معرض كما يبدو لتداعيات الأزمات المالية، التي تتعرض لها أمريكا.
وما يدعونا الى إثارة هذا الموضوع في الوقت الحالي، هو تزايد القلق في أمريكا من تفاقم الاختلالات المالية المتمثلة في عجز الميزانية والأهم من ذلك في تفاقم المديونية. وقد أثار إقرار الميزانية الأمريكية مؤخراً جدلاً كبيراً، ليس فقط من قبل أعضاء الحزب الديمقراطي ولكن أيضاً بين أوساط الحزب الجمهوري كذلك. ويرجع الجدل بشكل أساسي - حول مشروع الميزانية الذي أقر بصعوبة كبيرة - الى التخوف من أن الميزانية المقترحة من شأنها أولاً أن تزيد من حجم مديونية أمريكا، إضافة الى كونها قد تقلص من التمويل المطلوب للرعاية الصحية. على صعيد المديونية فإن المستوى الحالي، الذي يتجاوز 36 تريليون دولار، يعتبر مرتفعاً جداً ويتجاوز نسبة 122% من الناتج الإجمالي المحلي للاقتصاد الأمريكي. كما أن الميزانية الجديدة من شأنها إضافة حوالي 3.3 تريليون جديدة الى المديونية الحالية، خلال العشر سنوات القادمة. إن تزايد عجز الميزانية وتراكم المديونية، من شأنه على الأقل من الناحية النظرية أن يؤدي الى ارتفاع سعر الفائدة، وذلك لأن مثل هذا الوضع يثير مخاوف المستثمرين فى أدوات الدين الأمريكية، حيث يتوقعون نتيجة لهذه المخاوف أن يتم تعويضهم عن ذلك بعوائد مرتفعة على استثماراتهم، خاصة أن أكثر من 80% من هؤلاء المستثمرين هم من خارج أمريكا. أما على صعيد تأثير هذه الميزانية في خدمات الرعاية الصحية، فإنه يقدر أن البرنامج الحكومي، الذي يوفر التأمين الصحي لأكثر من 71 مليون أمريكي من ذوي الدخل المحدود وفئات الأطفال والنساء الحوامل، إضافة الى كبار السن والمعاقين، من شأن هذا البرنامج أن يتأثر سلباً وفقاً لهذه الميزانية الجديدة، حيث يتوقع أن يتم استقطاع حوالي تريليون دولار من برنامج الخدمات الصحية، خلال العشر سنوات القادمة. ويتوقع أن يخسر حوالي 12 مليون أمريكي تأميناتهم الصحية، خلال تلك الفترة، وفقاً لنص الميزانية الجديدة.
على صعيد موضوع الضرائب، فإن الميزانية الجديدة تتضمن خفضاً في معدلات الضرائب، إلا أنه ووفقاً لرأي بعض المحللين، فإن غالبية هذا الخفض، سيذهب حسبما يبدو لصالح الفئات الميسورة أصلاً، مقارنة بما دونها من الطبقات الاجتماعية. حوالي 60% من الامتيازات المرتبطة بهذا الخفض، سيذهب الى الأغنياء، مقارنة بما يمكن أن يستفيد منه الفقراء. وبالتالي تبدو هذه الميزانية عبارة عن إعادة توزيع الثروة لصالح الطبقات الغنية.
إن المشاكل الاقتصادية التي تعيشها أمريكا حالياً، لا تقتصر فقط على عجز الموازنة وتضخم المديونية، حيث إن موضوع الرسوم الجمركية لايزال يمثل إشكالية كبيرة فى علاقة أمريكا مع كثير من دول العالم. إن تراكم هذه المشاكل واستمرارها دون حل، من شأنه أن يزعزع الثقة فى وضع الاقتصاد الأمريكي، الذي على إثره يمكن لأمريكا، أن تفقد مزيداً من جدارتها الائتمانية مما قد يرفع في المحصلة من تكاليف اقتراضها من الأسواق المالية، هذا عدا عن إمكانية ابتعاد المستثمرين عن الأصول الأمريكية وما قد يترتب على ذلك من استمرار ضعف الدولار في التعاملات المالية العالمية.
بغض النظر عن جميع هذه الجوانب، تظل المديونية المتضخمة لأمريكا تمثل أهم المخاوف وأكبر المخاطر، التي يمكن أن تعرض ليس فقط أمريكا، ولكن العالم أيضاً لأزمة غير مسبوقة، لا أحد يعلم كيف ستكون طبيعة تداعياتها. في مواجهة هذا الوضع غير القابل للاستدامة، يثار التساؤل حول الخيارات المتاحة للسلطات الأمريكية المعنية لمعالجة هذه المعضلة، قبل أن تتفاقم أكثر لكن حسبما يبدو أنه ليس من بين الخيارات المتاحة، ما يمكن اعتباره حلولاً عملية قابلة للتطبيق. أول هذه الخيارات هو العمل على خفض الإنفاق بشكل كبير، بحيث يكون متناسباً مع الإيرادات التي يمكن تحصيلها. لكن وللأسف لا يبدو أن هذا الخيار ممكن، حيث إن السياسة المالية الأمريكية، قد أدمنت الالتزام بمستويات معينة من الصرف والإنفاق، بشكل أصبح من الصعب التراجع عنه. الخيار الثاني هو أن تطلب الحكومة من البنك المركزي طباعة مزيد من الأموال، لتسديد هذه المديونية، كما تم على إثر أزمة الرهن العقاري في عام 2008، لكن زيادة عرض النقود بكميات كبيرة من شأنها إشعال موجة جديدة من التضخم، الذي سيتضرر منه ليس فقط المواطن الأمريكي، ولكن سيتضرر المستثمرون من خارج أمريكا أيضاً، والذين سوف تتآكل قيمة استثماراتهم في أمريكا وفقاً لذلك. الخيار الثالث وهو الأسوأ، وفيه تعجز أو تتوقف أمريكا عن تسديد ديونها، وهذا شبيه بما أشار اليه مؤخراً إيلون ماسك بأنه حالة إفلاس.
طبعاً لا أحد يتصور أن أمريكا يمكن أن تفلس، الا أن حجم المديونية الحالية يبدو غير قابل للحل. وإذا افترضنا إمكانية توقف أمريكا في يوم من الأيام عن تسديد ديونها، فإن ذلك سيكون كارثة مالية، تفوق بكثير ما مر به العالم من أزمات مالية سابقة. لا احد يعلم كيف سيكون تأثير مثل هذه الصدمة في اقتصادات بقية دول العالم، إلا أنه لا قدّر الله إن حدث فإن تداعياته ستكون كالزلزال الاقتصادي، الذي قد لا يستثني أحداً.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.