مارتن فلاديميروف *
بعد نحو أربع سنوات على اندلاع أزمة الطاقة في أوروبا أواخر عام 2021، انتقلت القارة من مرحلة الاستجابة الطارئة إلى إعادة تصميم منظومتها بالكامل. غير أنّ الاتحاد الأوروبي لم يخرج بعد من دائرة الخطر، فالهشاشة لا تزال قائمة، والتقدم نحو تحقيق إمدادات نظيفة وآمنة وبأسعار معقولة يسير بوتيرة غير متوازنة بين دولة وأخرى.
يقيس مؤشر «مخاطر الطاقة والمناخ» الذي طوّره «مركز دراسة الديمقراطية» أمن الطاقة وفق أربع ركائز: الجغرافيا السياسية، القدرة على تحمّل الكلفة، الموثوقية، والاستدامة. وتشير نتائجه إلى اتساع الفجوة بين دول رائدة مثل فرنسا والسويد والدنمارك، وأخرى متعثرة مثل المجر وإيطاليا وبلغاريا.
ويتمثل أبرز إنجاز حققته أوروبا في تقليص اعتمادها على الوقود الأحفوري الروسي. فبحسب بيانات «يوروستات»، انخفضت واردات الغاز الروسي من نحو 40% من إمدادات الاتحاد الأوروبي عام 2021 إلى قرابة 10% فقط في عام 2025. وقد تحقق ذلك عبر تنويع مصادر الاستيراد، لاسيما من الولايات المتحدة والنرويج وقطر. وبخصوص دول كإيطاليا وألمانيا، اللتين كانتا من أكبر المستهلكين للطاقة الروسية، فقد أوقفتا تقريباً استيراد الغاز من موسكو. لكن دولاً أخرى في وسط أوروبا، مثل المجر وسلوفاكيا، ما زالت مرتبطة بعقود طويلة الأمد مع «غازبروم»، إذ تستورد بودابست أكثر من ثلاثة أرباع غازها من روسيا.
لكن هذا الانفكاك لم يأتِ دون أثمان. فقد برزت تبعيات جديدة، أولاها اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، ما قد يضع الاتحاد تحت رحمة المفاوضات التجارية أو السياسية المقبلة مع واشنطن. وثانيهما اعتماد متزايد على سلاسل التوريد الصينية في مجالات حيوية للطاقة النظيفة، فبكين تهيمن على تكرير معظم المعادن النادرة والضرورية لتصنيع البطاريات والطاقة الشمسية والرياح. فهي تكرّر أكثر من 60% من الليثيوم العالمي، و80% من الكوبالت، و70% من العناصر الأرضية النادرة. وهكذا تخاطر أوروبا باستبدال تبعية بأخرى.
ومع ذلك، ليست الصورة قاتمة بالكامل. ففرنسا عززت قدرتها على تكرير السيليكون لتصنيع الألواح الشمسية، والسويد وفرت 90% من إنتاج خام الحديد داخل الاتحاد وتوسع إنتاجها من النحاس والزنك. كما تطور البرتغال احتياطياتها الضخمة من الليثيوم، فيما تستضيف فنلندا مصافي رئيسية للنيكل والزنك. أما في الجوار الأوروبي، فيمكن لمنجم «جادار» في صربيا تلبية نحو 90% من احتياجات أوروبا الحالية من الليثيوم إذا دخل الخدمة، ومن المرجح امتلاك أوكرانيا رواسب كبيرة من التيتانيوم والمعادن النادرة، ولكن يبقى مدى إمكانية استخراجها ومعالجتها بشكل مربح سؤالاً مفتوحاً.
وإذا كانت الجغرافيا السياسية قد سيطرت على النقاش في 2022، فإن التحدي الأبرز اليوم هو القدرة على تحمّل تكاليف الطاقة، إذ ارتفعت المخاطر المرتبطة بذلك خمسة أضعاف منذ 2020، نتيجة صدمات الأسعار عقب حرب روسيا وأوكرانيا.
وتشير بيانات «يوروستات» إلى أن فواتير الكهرباء والغاز في دول جنوب وشرق أوروبا ما زالت أعلى بنحو 40% إلى 70% مقارنة بما قبل الأزمة، مع هشاشة خاصة في دول تعتمد بشدة على الفحم مثل بولندا وبلغاريا وتشيكيا. في المقابل، تبدو المخاطر أقل بكثير في فرنسا والشمال، بفضل أنظمة طاقة أقل كثافة كربونية.
لكن الأثر الأعمق يتجلى في الصناعة الأوروبية، فقد فقدت القارة أكثر من مليون وظيفة صناعية بين 2021 و2024 بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة. ومن دون عقود طويلة الأمد للطاقة النظيفة وإجراءات أكثر حزماً في كفاءة الاستهلاك، تخاطر أوروبا بفقدان قدرتها التنافسية عالمياً.
في غضون ذلك، شهدت طبيعة مخاطر الموثوقية في أوروبا تحولات أيضاً. ففي ظل هيمنة الوقود الأحفوري، كان التحدي الأكبر ضمان استمرار الإمدادات. أما اليوم، ومع التوسع السريع في إدماج مصادر الطاقة المتجددة، تكمن المشكلة في غياب البنية التحتية القادرة على استيعابها. وأحد الأمثلة الصارخة كان الانقطاع الكبير للكهرباء في شبه الجزيرة الإيبيرية في إبريل الماضي، حين تسبب فقدان مفاجئ ل15 غيغاواط من الطاقة الشمسية في انهيار الشبكة، لعدم توافر احتياطات كافية تدعم الأنظمة المعتمدة على المحولات.
ورغم استثمار دول ثرية مثل ألمانيا وهولندا في شبكات رقمية وتخزين متطور وربط إقليمي، إلا أن وسط وشرق أوروبا ما زال يعاني شبكات قديمة واستثمارات محدودة، ما يجعله عرضة لانقطاعات مستقبلية واسعة.
وعلى صعيد الاستدامة، وضع الاتحاد الأوروبي أهدافاً طموحة عبر صفقات ومبادرات خضراء، لكن التنفيذ غير متوازن. السويد والدنمارك وفنلندا، على سبيل المثال، نجحت في الجمع بين الطاقة المتجددة وإزالة الكربون الصناعي والحكم الرشيد لتقليص المخاطر. في حين استفادت فرنسا من الطاقة النووية التي حدّت من الانبعاثات وضبطت التكاليف.
لقد أثبتت السنوات الأربع الماضية أن أوروبا قادرة على التحرك في أوقات الأزمات. لكن المرحلة المقبلة من التحول تتطلب ما هو أبعد من ردود الفعل المؤقتة، إنها تحتاج إلى استراتيجية طويلة المدى وتنسيق أوثق بين الدول الأعضاء. ومن دون ردم فجوة سياسات الطاقة، ستبقى سيادة أوروبا وازدهارها في خطر.
*مدير برنامج الطاقة والمناخ في «مركز دراسة الديمقراطية» (رويترز)
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.