يكتشف عالمان فلكيان اقتراب نيزك مدمر من الأرض، ويحاولان تحذير العالم من الكارثة الوشيكة، لكن بدلاً من الاستجابة العقلانية، تتجاهل الحكومات ووسائل الإعلام والجمهور التحذيرات، وينشغل الجميع بالمصالح الشخصية والشهرة، والربح السريع.
هذا ما عرضه فيلم "Don't Look Up" (والذي يعني لا تنظر للأعلى لأن النيزك يقترب) حيث يظهر كيف يمكن أن يؤدي الإنكار الجماعي، والانحيازات النفسية إلى تجاهل حقائق واضحة، مما يؤدي إلى حالة من عدم العقلانية العامة.
الذهب مثالًا
ويمكن القول إن الأسواق العالمية باتت تعاني بدرجة ما مما عرضه الفيلم الشهير، حيث ارتفع سعر الذهب خلال أسبوع التداول من 13 إلى 17 أكتوبر الماضي بشكل لافت بما جعله يتجه لتحقيق أسبوع التداول الأفضل منذ 17 عامًا، ولكن في يوم التداول الأخير تراجع بنسبة 1.8% وهي الأكثر حدة خلال عامين.
وما حدث في افتتاح أسبوع 20-24 أكتوبر يؤكد التقلب العنيف، حيث وصلت أوقية الذهب إلى مستوى قياسي 4381 دولارا في تداولات اليوم الأول، ولكنها شهدت أكبر انخفاض منذ 5 سنوات، بنسبة 5% يوم الثلاثاء بسبب "جني الأرباح"، ثم واصلت الانخفاض للسبب نفسه بداية تداولات الأربعاء.
وعلى الرغم من أن المضاربات التي تحدث بسبب الارتفاعات -أو الانخفاضات- الكبيرة معتادة، وترجع لميل البعض إلى السعي لجني الربح السريع أو لانتهاز فرص الشراء، ولكن حجم الارتفاعات والانخفاضات القياسية خلال الأشهر الماضية يطرح سؤالًا حول ما إذا كانت الأسواق تعاني من غياب العقلانية بصورة كبيرة ومتزايدة؟
فالذهب ارتفع بشكل قياسي لما يمكن أن نصفه بـ"الأسباب المنطقية"، فالتوترات التجارية الأمريكية الصينية عادت بقوة، والحظر الصيني للمعادن النادرة فتح بابًا لمواجهة تجارية بلا ضوابط بين الاقتصادين الأكبر في العالم مما يزيد الميل للتحوط وشراء الذهب.
ليبقى التساؤل عن سبب الانخفاض الكبير في يوم واحد، حتى مع وضع المضاربات وبعض التصريحات الأمريكية التي حاولت تهدئة الأسواق في الحسبان، وهو مظهر لسيادة حالة من غياب العقلانية بشكل كبير، وتفاقم تأثيرات المضاربة على السوق.
تفاؤل وتركيز "غير عقلاني"
وبشكل عام تزايدت في الأسواق المالية، لا سيما في أمريكا، مظاهر لـ"عدم العقلانية"، لعل أبرز صورها وصول مؤشرات سوق الأسهم لمستويات قياسية غير مسبوقة على الرغم من كل صور التهديد للسوق الأمريكي، من صراع سياسي داخلي تبلور في المظاهرات الضخمة، وأزمة الإغلاق الحكومي، والتعامل الحكومي مع ملف الهجرة.
وخارجيًا تبدو السياسات المتعلقة بالرسوم الجمركية المتذبذبة والمتقلبة والتي تؤدي إلى غياب اليقين الاقتصادي في صدارة الأسباب، وعلى الرغم من ذلك يبدو المشهد في "وول ستريت" مختلفًا مع سيادة اتجاه صعودي لمؤشرات الأسهم، حتى وإن شهدت تراجعًا في بعض الأيام.
فالحديث عن "فقاعة الذكاء الاصطناعي"، والمبالغات في التقييم، وحتى في تقارير شركات الأصول التي يهمها بقاء سوق الأسهم في مستوياته المرتفعة، إذ يشير تقرير لعملاق إدارة الأصول "بلاك روك" إلى "مخاطر" من ارتفاع متوسط مضاعف ربحية "ستاندرد آند بورز 500" إلى 19.5، مقارنة بمتوسطه التاريخي البالغ 14 خلال العقود الثلاثة الماضية.
ويشير التقرير إلى أن المضاعف لم يعد يعكس النمو الاقتصادي فحسب، بل يكشف تفاؤلًا مفرطًا من المستثمرين، خاصة في قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إذ تجاوزت بعض الشركات الكبرى مضاعفات ربحية بلغت 50.
والشاهد أن هذا التفاؤل المفرط أدى إلى تركز غير صحي في السوق، فأكبر 7 شركات في السوق الأمريكي تمثل قرابة 40% في المتوسط من القيمة السوقية الإجمالية، وهو يعكس سلوكًا جماعيًا غير عقلاني يضخ الأموال في أسهم قليلة على أمل استمرار المكاسب.
أمريكا تستحوذ على الأموال
ففي السنوات الأخيرة، شهد العالم تزايدًا ملحوظًا في التحيز الجغرافي لتدفقات رؤوس الأموال، وهو ما يُعد مؤشرًا واضحًا على غياب العقلانية في سلوك المستثمرين العالميين، إذ استحوذت الولايات المتحدة على نحو 50% من إجمالي التدفقات المالية العالمية في عام 2022، وهي نسبة غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية.
وفي العامين التاليين استمرت التدفقات النقدية في الزيادة لأمريكا، ولكن الملاحظ أنه وحتى مع زيادة عدم اليقين الاقتصادي بفعل السياسات التجارية الحمائية الأمريكية، فإن التدفقات استمرت في الوصول للسوق الأمريكي.
وفي يوليو 2025 وحده، وبعد 3 أشهر فقط من إقرار الرسوم الجمركية الأمريكية القياسية، ضخ المستثمرون الأجانب 78.8 مليار دولار في الأوراق المالية الأمريكية طويلة الأجل، بينما لم تتجاوز مشتريات المستثمرين الأمريكيين من الأوراق المالية الأجنبية 29.6 مليار دولار.
وأدى هذا إلى تضخم كبير في السوق الأمريكي، حيث يشير تقرير لـ"مورننج ستار" إلى أن السوق الأمريكي أصبحت في عام 2025 تشكل 64% من إجمالي قيمة سوق الأسهم العالمية في الربع الثاني لعام 2025، حيث ازدادت التدفقات المالية الواردة إليها منذ جائحة كورونا ولم تتراجع بما أدى لمبالغة كبيرة في قيمتها.
ويعكس هذا الأمر تناقضًا جوهريًا في رأي الكثير من المحللين، ففي الوقت الذي باتت الولايات المتحدة متورطة في العديد من النزاعات التجارية، وحتى تهدد بخوض نزاعات حقيقية مع فنزويلا وغيرها وتعاني من غياب الاستقرار السياسي الداخلي بشدة وتزايد الاستقطاب الجمهوري-الديمقراطي، ما يزال الكثير من المستثمرين يرونها الملجأ الأكثر أمانًا.
أزمة المعادن النادرة نموذجًا
لعل أبرز دليل على انفصال السوق عن الواقع هو تجاهل المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية، وأحدثها كان استرداد مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" لأكثر من نصف خسائره التي تكبدها يوم 9 أكتوبر الماضي بسبب قيود الصين على تصدير المعادن النادرة بعدها بيومين فقط.
فبعد الإعلان الصيني انخفض السوق من مستوى 6735 نقطة إلى مستوى 6552 نقطة، أي أنه فقد 180 نقطة قبل إغلاق الجمعة، وعانت شركات التكنولوجيا من غالبية هذه الخسارة، ولكن مع افتتاح الأسواق أبوابها بعد العطلة، وفي يوم الاثنين ارتفع السوق أكثر من 100 نقطة ليعوض غالبية خسائره.
ولو طُبقت القواعد المنطقية لكان للقرار الصيني تأثيرات عنيفة للغاية على الأسواق ولا سيما الشركات التكنولوجية، خاصة أن القرار لم يتم التراجع عنه.
وكانت المبالغة في اتجاهين، الأول في رد الفعل الحاد بانخفاض يوم واحد بـ180 نقطة، حيث تعامل المستثمرون مع القيود وكأنها حظر شامل وفوري، وكان الأولى هو التحوط لاحتمال تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة وليس اتخاذ رد فعل عنيف على تطور ضمنها -على أهميته.
وبعد يومي إغلاق السوق بدأ المتداولون يستمعون للمحللين الذين أشاروا إلى أن الصين نفسها ستتضرر من هذا القرار، وأن هذا الارتفاع في أسعار المعادن النادرة بنسبة 35% في أسبوع واحد كان مدفوعًا بالخوف، وأن قرار الصين غالبًا ما سيتم التراجع عنه -إذا- تم التوصل لاتفاق بين الولايات المتحدة.
والشاهد أن الاطمئنان السريع للسوق بعد القرار الصيني على خطورته، يؤشر لرغبة جماعية في التقليل من المخاطر والميل لدفع السوق للاستمرار في نهجه الصاعد، بغض النظر عن المحاذير أو العوامل التي تدفع للقلق.
وبالعودة لفيلم "Don’t Look Up" فإنه يبدو أن هناك حالة عامة من غياب العقلانية في السوق، الذي تعترضه مخاطر متعددة، وعلى الرغم من ذلك يبدو كثيرون أنهم مستمرون في حالة "الإنكار"، حرصًا على الحفاظ على مستويات السوق المرتفعة، حتى لو استيقظ المستثمرون فجأة على واقع وحقيقة مختلفة تمامًا.
المصادر: ارقام- مورنينج ستار- فيديلتي- سي.إن.بي.سي- رويترز- فوربس
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
