كارل بفيفركورن *
لاحظ الاقتصادي توماس سويل ذات مرة أنه لا توجد سياسات، بل مجرد مقايضات. وقد يكون من نتائج ذلك أن هذه المقايضات تكشف التناقضات بين أهداف السياسة. وعندما نتجاهلها، تصبح السياسات نفسها غير متماسكة. وهذا يقودنا إلى مستنقع سياسات الطاقة المعقدة في الاتحاد الأوروبي.
لقد فرضت أوروبا حظراً على صادرات الغاز الروسي لحرمان آلة حرب بوتين من الإيرادات اللازمة، ولكن على حساب الطاقة الرخيصة اللازمة لدفع عجلة الصناعة الأوروبية.
ونظراً لتوافر الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر، فإن قرارات الحظر تلك لم تشكل بالضرورة ضربة قاصمة للصناعات التحويلية والكيميائية في الاتحاد الأوروبي، بافتراض أن الدول الأعضاء تستطيع بناء محطات للغاز الطبيعي المسال وزيادة الواردات.
مع ذلك، وبينما يرغب الاتحاد الأوروبي بشدة في حماية صناعته بينما يتخلص تدريجياً من الاعتماد على الغاز الروسي، فإنه يجد نفسه يتعثر أمام عقبة كبيرة من صنعه، وهي توجيه العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية.
لقد سبق أن صاغت المفوضية الأوروبية توجيه العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية كجزء من جهودها للوصول إلى هدف الحياد الكربوني بحلول عام 2050. في ظاهر الأمر، لا علاقة واضحة للتوجيه بمعارضة أوروبا لحرب بوتين.
يتطلب توجيه العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية من الشركات العاملة في السوق الموحدة تحديد المخاطر الفعلية أو المحتملة لحقوق الإنسان والبيئة وتطبيق معايير للحد من هذه المخاطر. وينطبق التوجيه على «سلسلة الأنشطة» العالمية للشركات. وقد يؤدي عدم الامتثال إلى غرامة تصل إلى 5 في المئة من إيرادات الشركة العالمية.
كيف يمكن لجهد حسن النية الخاص بتوسيع نطاق المعايير البيئية الأوروبية لتشمل موردي الشركة العالميين أن يعقد جهودها لإضعاف القدرة العسكرية لبوتين؟ والجواب، عبر الفشل في ملاحظة المقايضة بين فرض لوائح بيئية خارج الحدود الإقليمية وحاجة أوروبا إلى بديل للغاز الروسي. وهنا يُظهر تحليل بسيط لشبكة الغاز الأمريكية مدى بُعد متطلبات توجيه العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية عن الواقع.
أكبر مُصدِّر أمريكي للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا هي شركة «تشينير إنرجي»، التي تمتلك محطة «سابين باس» في لويزيانا، القادرة على تصدير أكثر من 30 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً، إضافة إلى محطة «كوربوس كريستي» في تكساس بطاقة تصدير إضافية تبلغ 15 مليون طن.
تقع محطات ضغط الغاز الطبيعي المسال في نهاية شبكة خطوط أنابيب تمتد عبر القارة وتسحب الغاز مما يقرب من نصف مليون بئر غاز عاملة. لا تمتلك شركة تشينير سوى جزء ضئيل من شبكة خطوط الأنابيب هذه، ولا تملك أي آبار غاز خاصة بها.
إن تكليف هذه الشركة بتحديد وتقليل المخاطر البيئية «الفعلية أو المحتملة» لآلاف الأميال من خطوط الأنابيب ونصف مليون بئر تديرها مجموعة كبيرة من المشغلين المستقلين، يمثل مهمة إدارية معقدة للغاية ومكلفة ومن المرجح أن تكون مستحيلة، وقد تتجاوز تكلفتها 5% من إيرادات تشينير السنوية.
في أحسن الأحوال، سيفرض مصدرو الغاز الطبيعي المسال رسوم امتثال باهظة على إمدادات الطاقة التي تحتاج اليها أوروبا بشدة. وفي أسوأ الأحوال، سيعتبرون السوق الأوروبية غير جديرة بالاهتمام. وفي كلتا الحالتين، ستدفع الصناعة الأوروبية ثمن التوقعات المتفائلة غير الواقعية لقانون العناية الواجبة للشركات في مجال الاستدامة.
ولا يقتصر الضرر المحتمل الذي يلحق بالصناعة الأوروبية جراء هذا القانون على تكاليف الامتثال فحسب.
في خطوة تُعد بمثابة هدية واضحة للمنظمات غير الحكومية البيئية الأوروبية المعروفة بنشاطها المفرط، أدرجت المفوضية الأوروبية إجراءً لتقديم الشكاوى في القانون يسمح لأطراف ثالثة بالطعن في امتثال الشركات عبر «سلسلة أنشطتها» العالمية.
ونظراً لعداء المنظمات غير الحكومية البيئية للصناعة، بل وللرأسمالية نفسها، فمن المتوقع أن يواجه كل مستورد للغاز الطبيعي المسال دعاوى قضائية معقدة لمجرد استبدال بوتين كمورد الطاقة الرئيسي لأوروبا.
كل هذا لن يؤدي إلا إلى رفع تكلفة الطاقة على أوروبا في وقت تعاني فيه صناعاتها وأسرها من تكاليف باهظة.
يبقى أن نرى كيف يمكن لأوروبا دعم قانون العناية الواجبة في سلاسل التوريد وفي الوقت نفسه الوفاء بالتزاماتها التي قطعتها في يوليو/ تموز الماضي بشراء مئات المليارات من الدولارات من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي.
من غير المرجح أن تتمكن من تحقيق الأمرين معاً. يمكنكم أن تتخيلوا رئيساً مثل ترامب يطالب بمعرفة سبب تركيز الاتحاد الأوروبي على ردع شركات الطاقة الأمريكية أكثر من تركيزه على التصدي للتوغلات العسكرية الروسية.
لكن الأصعب بكثير هو التوفيق بين التناقضات الكامنة في هذه الأهداف. لا شك في أن المفوضية الأوروبية الكفؤة ستفرض أولويات سياسية تفصل بين هذه التناقضات.
* أستاذ التاريخ السياسي في جامعة فيرجينيا «بروكسل سيجنال»
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
