دونالد بودرو*
اعتقدت لفترة طويلة أن إحدى أكثر الوسائل فعالية للحد من تضخم النمو الحكومي في الولايات المتحدة هي «تجويع الوحش»، أي الإبقاء على عائدات الضرائب في أدنى مستوى ممكن. الفكرة بسيطة: إذا حُرمت الحكومة من الموارد، فلن تملك خياراً سوى تقليص إنفاقها، والانكماش إلى كيان أصغر قادر على العيش بمبالغ صغيرة من الإيرادات.
لكنني لم أعد أؤمن بصحة هذه النظرية. فقد بات واضحاً لي أن الحكومة، ما دامت قادرة على تمويل إنفاقها عبر الاقتراض، فإن سياسة خفض الضرائب لا تؤدي إلى تجويع الوحش، بل إلى تسمينه.
حين تُبقي الحكومة الضرائب أقل من حجم الإنفاق، فإنها عملياً تُمَوِّل جزءاً كبيراً من إنفاقها الحالي من جيوب المواطنين في المستقبل.
فالدين العام الصادر اليوم سيسدَّد غداً، عندما يكون كثير من دافعي الضرائب الحاليين قد انتقلوا إلى شرائح ضريبية أدنى.. أو إلى قبورهم! أما العبء الحقيقي فيقع على عاتق أجيال لم تولد بعد، لكنها ستتحمل فاتورة الإنفاق الذي استفاد منه أسلافهم.
بهذه الطريقة، تسمح آلية العجز المالي للأمريكيين اليوم بالحصول على «مزايا حكومية» ممولة بأموال غيرهم، وهو ما يغريهم بطلب مزيد من الإنفاق العام. فلا أحد يُنفق أموال الآخرين بنفس الحرص الذي ينفق به أمواله الخاصة. تماماً كما سيطلب سكان نيويورك وكاليفورنيا المزيد من الخدمات الحكومية إذا تم دفع ثمن هذه الخدمات إلى حد كبير من جيوب سكان فلوريدا وتكساس. وبالمنطق نفسه، سيطلب سكان عام 2026 خدمات حكومية أكبر طالما يعلمون أن من سيدفع الفاتورة هم أبناء عام 2056.
ليس غريباً إذن أن تُظهر الأدلة التجريبية أن محاولات «تجويع الوحش» عبر خفض الضرائب ستؤدي في الواقع إلى زيادة الإنفاق الحكومي بدلاً من تقليصه.
بالتالي، فإن الوسيلة الأكثر فاعلية لإبقاء «الوحش الحكومي» في حجم معقول ليست بتجويعه ضريبياً، بل بفرض قاعدة مالية صارمة تتطلب تمويل جميع النفقات الجارية من الإيرادات الحالية، سواء عبر الضرائب الجارية، أو خفض الإنفاق في مجالات أخرى، أو بيع أراض عامة وغيرها من الأصول المملوكة للدولة.
لأنه لو اضطر المواطنون إلى دفع ثمن ما يستهلكونه من خدمات عامة فوراً من جيوبهم، لكانوا أكثر ميلاً إلى مقاومة أي زيادة في حجم الحكومة أو اتساع صلاحياتها. فالمعادلة بسيطة: حين تشعر بالثمن مباشرة، تقل شهيتك للاستهلاك.
حتى لو افترضنا أن العجز المالي لن يؤدي يوماً إلى أزمة ديون أو ارتفاع أسعار الفائدة، فإن الحُجة لصالح ميزانية متوازنة تبقى قوية. لأن السماح لجيل بالإنفاق على حساب الجيل التالي يولّد سلوكاً اقتصادياً غير رشيد. فمن السهل على «الفرد 1» أن يقترض من «الفرد 2» طالما يمكنه نقل عبء السداد إلى «الفرد 3». وحتماً، سيتصرف 1 كما يتصرف أي إنسان في مثل موقفه، يُنفق أكثر مما يستطيع سداده.
إن تبديد الموارد الناتج عن هذا الإنفاق المفرط يقلل من نمو الاقتصاد على المدى الطويل، بل ربما يدفعه إلى التراجع. وعندما يدخل «الفرد 3» بعد سنوات دائرة دافعي الضرائب، سيجد نفسه في اقتصاد أضعف وقدرة محدودة على تسديد الديون التي ورثها عن «الفرد 1». وإذا لجأ بدوره إلى العجز المالي لتخفيف أعبائه، فسينقل الدين إلى «الفرد 4» الذي لم يولد بعد.
في النهاية، يتراكم الدين جيلاً بعد جيل حتى يبلغ مستويات لا يمكن تحملها. وحين يدرك الدائنون حجم الخطر، سيطالبون بعوائد أعلى، ما يزيد العبء المالي على الدولة، وقد يفتح الباب أمام أزمة ديون وطنية، أو حتى إلى تضخم مفرط، أو تخلّف عن السداد.
ربما يعترض «الحمائم» من المدافعين عن سياسة العجز المالي، بأنه لا توجد مشكلة ما دام المقرضون مستعدين للتمويل، وبأن الأسواق لا تُقرض إلا من تثق بقدرته على السداد. غير أن التاريخ يعج بأمثلة لدول وُصفت يوماً بأنها «آمنة» ثم انهارت فجأة تحت وطأة الديون.
ولهذا، حتى لو افترضنا – في عالم مثالي – أن الدين العام لن يؤدي أبداً إلى أزمة مالية، فإن المطالبة بميزانية متساوية تبقى ضرورية، لأن هذا الشرط سيكون بمثابة رادع فعال لكبح التوسع غير المنضبط للحكومة. فالمحاسبة الفورية على كل دولار يُنفق اليوم هي السلاح الأنجع لإبقاء «الوحش» تحت السيطرة، قبل أن يلتهم مستقبلنا المشترك.
*باحث أول في المعهد الأمريكي للأبحاث الاقتصادية، ومدير مشارك لبرنامج الاقتصاد الأمريكي والعولمة في مركز «ميركاتوس» «ديلي إكونومي».
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
