هَيْهاتَ، هَيْهاتَ، لا جِنٌّ ولا سَحَرَهْ
بِقادِرِينَ عَلَى أَنْ يَلْحَقُوا أَثَرَهُ!
فما عساه يقول، أو يقول غيره من الشعراء والنظّامين، وقد كشفت الصين عن نموذج مطوّر لقطار ركاب تصل سرعته إلى (600) كيلومتر في الساعة، يعمل بتقنية الوسادة المغناطيسية «Maglev» فائقة التوصيل، ونظام تعليق مزدوج، يسمح له بالتحليق مغناطيسيًا عند تجاوز سرعة (150) كيلومترًا في الساعة، مما يقلل الاحتكاك ويزيد من كفاءة التشغيل، ومادته خليط من سبائك الألومنيوم وألياف الكربون، بما يكسبه خفة في الوزن وصلابة ومتانة.
فأي مفردات «الدهشة» قادرة على توصيف هذه السرعة الأرضية التي تفوق السابحات في الهواء من الطائرات.
فتح جديد في عالم النقل والمواصلات يعيد طرح أسئلة وجودية في غاية القلق والحيرة، جماعها في سؤال مركزي مفاده إلى أين يفضي بنا هذا اللهاث؟
وكم ربحنا وكم خسرنا من هذا الطراد؟
سيكسب عالم الاقتصاد والمال بلا جدال، وسيكسب معه كل مجال يمثّل عامل الزمن فيه الدالة الأساسية، والقيمة المشتركة، لكن بالمقابل ستسقط من الذاكرة متعة السفر، وما يكتسبه الإنسان من تجربته، وما ينتج عن ذلك من مسرودات وأدب وتجارب في المتعة غاية، وفي الجمال مكان علي
هذا ما ألمح إليه الطيب صالح، في كتابه «منسي» محاولاً أن يقف في منتصف المسافة بين تحقيق الغاية من التطور وإبقاء الجانب الإنساني حاضرًا بكل ما يحمله من قيم ومذخورات، يقول: «لو كان لي من الأمر شيء، لربطت العالم العربي كله، من طنجة إلى مسقط، ومن اللاذقية إلى نيالا، بشبكة من السكك الحديدية مثل قطارات الـT.V.G السريعة في فرنسا، وقطارات الـBullit في اليابان.
الإنسان الذي كان يسير الشهر والشهرين بالبعير، من صنعاء إلى مكة، لماذا قفز فجأة لهذه الوسيلة الجنونية؟
المطارات مهما بلغت، تبدو شيئًا موقّتًا. محطّات السكك الحديدية لها طعم آخر وسحر خاص.
المحطّات الخلوية والمناظر المتنوّعة. تعرف أنك قد قمت من مكان ووصلت إلى مكان، تنام وتقرأ وتصادف أصنافًا من خلق الله. ليس مثل الطائرة. تغمض وتفتح فإذا أنت قد انتقلت من حال إلى حال».
حُقَّ للطيب صالح أن يقلق، فلن يكون بوسعه مع هذا القطار الصيني الجديد، أن يقف متأملًا، أو أن يغذّي ذاكرته من المكان، أو أن يشخذ خياله من تأمل الناس، وبناء علاقات معها، أو أن يقرأ، أو أن يمارس إي فعل إنساني نبيل، شأنه شأن من يستغل الطائرة. وحاله سيكون حال كافة المبدعين، فالسرعة نقيض التريث والتأمل، وضد عمل «الذاكرة»، التي هي مناط الإبداع، ومركز بواعث الحنين والشجن والمشاعر المتقلبات، على هذا سارت منذ القدم وإلى اليوم، منذ أن مهّد لها الملك الضليل؛ امرؤ القيس، بفاتحة قوله:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ
فوطّأ لغيره معارج الحنين، وعبّد لهم الطريق إلى مسالك الشجن، فمن ريث الوقوف على الأطلال إلى إبطاء السير في مفاوز الرحلة، ومن تؤدة إلى ظعن متراخٍ، وحتى من كان على عجلة من أمره، وحاجة إلى الإسراع، لم يفته حظ الوقوف بأطلال الحبيبة ورسمها الدارس، وذاك شأن الحكيم المتنبي، وقد وصف حال قلقه بالقول:
بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها
وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التَربِ خاتَمُه
كَئيبًا تَوَقّاني العَواذِلُ في الهَوى
كَما يَتَوَقّى رَيِّضَ الخَيلِ حازِمُه
قِفي تَغرَمِ الأَولى مِنَ اللَحظِ مُهجَتي
بِثانِيَةٍ وَالمُتلِفُ الشَيءَ غارِمُه
حنانيك يا «متنبي» ما عاد في الوقت متسع لوقفة، وقد أخذت السرعة بخطام أيامنا، فلا ريث ولا مكث ولا روية، كأننا نطارد وهمًا، كأننا نتسابق في «لا شيء»، كأننا نلاحق ما لا يدرك، ونستدني ما لا يقترب، وكل يوم تضمحل ذواكرنا، وتنمحي من الخاطر الذكريات، ونعيش الحياة بفقه الـ«Take away»، من طعامنا وشرابنا إلى ملبسنا ومرقدنا، وكل مستهلكاتنا اليومية،
نبحث عن الجديد لغايات عبثية.
فقبل أن تفك مغلاق حديث، حتى يُفاجِئُك ما هو أحدث منه في عالم التكنولوجيا، فتلقي بما في يدك وتهرع إليه..
ولا تركب سريًا حتى تمتطئ ما هو أسرع منه. وهكذا في الطراد والسباق المحموم.
ولا شيء يوقف هذه المسبحة الكارة المنفرطة..
والصين تمضي بنا مع عالمها المجنون إلى قطار يمسح ذاكرتك، ويبلغك هدفك قبل أن تقوم من مكانك..
فإلى أين ينتهي بنا هذا اللهاث المتلاحق؟!
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.